يوم أعلن الرئيس المخلوع فى خطابه الشهير عن نقل صلاحيات رئيس الجمهورية إلى نائبه عمر سليمان ارتفعت مئات آلاف الأحذية فى الميدان، واليوم عندما رشح عمر سليمان نفسه للرئاسة جمع عشرات آلاف التوكيلات فى إحدى عشرة ساعة.. كيف حدث هذا التحول فى أربعة عشر شهرا فقط؟ لماذا لا يكون السيناريو الذى وضعه الفلول كان يسير على النحو التالى؟ زوّروا الانتخابات للمتأسلمين، وضعوهم فى الصدارة لتكون مواجهة مباشرة بينهم وبين الوطن، وسيتعاونون معكم فى هذه الخظة لخلفيتهم فى المفاوضات الأمنية قديما، ولكونهم يشتاقون بشدة إلى هذه الصدارة، وبعد أن يحدث هذا سنسقطهم نحن بطريقتنا، فنحن ما زلنا نمسك بأكثرية مفاتيح البلد، ونستطيع أن نضيق عليهم الخناق، بحيث يبدو كسلطة مشلولة ذات صوت عالٍ على الفاضى، استفزازهم سيجعلهم يخرجون عن شعورهم وينفعلون أكثر مما يجب، تتسع الهوة بينهم وبين الشعب، بحيث يبدو عمر سليمان فى اللحظة المناسبة نعمة من الله.
لا أحد قادر على لعبة السياسة فى البلد إلا بواقى النظام السابق، ضحوا بالرؤوس الكبيرة منهم، وحرقوا فى انتخابات البرلمان الأسماء التى كانت الناس تكرهها بالفطرة وتتمنى رحيلها، والتزم الباقون بالصمت التام، مفرغين المشهد من أنفسهم، تاركين الفخ يطقطق أسنانه لمن يأتى بعدهم، كان شباب الثورة غير مشغول بطموحات سياسية تخص أفراده فنجا من الفخ، لأنه أشار إليه من اليوم الأول دون أن يصدقه أحد، بل ودفع ثمنا غاليا لإشارته تلك، فقط الإسلاميون اندفعوا ناحية الفخ كما يقول كتاب الغشومية، أخدوا الفخ بالأحضان رغم أن المؤمن كيِّس فطن، كانوا يُستدرجون إلى الفخ من باب غزوة الصناديق وعرس الديمقراطية وعجلة الإنتاج، وطاوعهم الفلول أو بمعنى أدق أخذوهم على قدر عقولهم على طريقة «باب الحديد»: «أنا اللى هاجوّزك هنُّومة يا قناوى». الفلول كانوا ينظرون إلى طرفين آخرين فى المشهد بكثير من القلق: الثوار ومحمد البرادعى، فكلاهما قادر على استيعاب القوى الأخرى والتفاعل معها والتعامل بأمانة ثورية مع الإسلاميين وغيرهم، أما الثوار فسحب البساط من تحت أقدامهم كان يبدأ بضمان عدم دعم المتأسلمين لهم مقابل الحصول على شرعية الكارنيه، أما البرادعى فقد تم تسليمه للمتأسلمين بصفته ملحدا علمانيا، فكان صيدا سهلا من هذه الوجهة يمكن القضاء عليه معنويا بلجان إلكترونية منظمة وأئمة مساجد ودعاة مفوهين (يا واد يا مؤمن). الغريب أن البرادعى لم يقف فى وجه الإسلاميين، وطالب الناس بإعطائهم الفرصة كاملة، والوقت كفيل بكشف أن الأمور لا تسير بالشعارات فقط، وصدق فى ذلك، حيث استجاب المتأسلمون للخطة بحسن نية أحيانا وبترتيب مسبق أحيانا، والنتيجة أن الثوار تعرضوا لإنهاك لا آخر له فابتعدوا عن المشهد، احتراما لشعب سقط فى هاوية الألم المادى والعصبى، ظانا أن الثوار هم السبب، أما البرادعى فقد انسحب من الانتخابات ملوحا بأنها تمثيلية مهينة، لكن أحدا لم يصدقه. كان يمكن أن نصدق بسهولة أن هناك مؤامرة أمريكية صهيونية على الشيخ حازم، ولا نصدق أن هناك مؤامرة مصرية على الدكتور البرادعى، خَفَت صوت الثورة قليلا، فأصبح المشهد لا شىء به سوى المتأسلمين يرقصون حول الفخ، ويستعرضون قوّتهم وفتوّتهم، واضعين الأشياء فى نصابها الصحيح من وجهة نظرهم، فمعارضتهم هى نوع من الحسد، ومقاومة ديكتاتوريتهم هى تمرد على اختيار الشعب، والتلويح بأنهم يسعون إلى الهاوية يتم الرد عليه بأن هذه هى كلمة الصندوق.
وفى لحظة وبينما يتدافع الملايين على شفا الفخ ظهرت الكارثة التى تم استدراجهم إليها فارتبكوا بشدة، حتى ارتباكهم الذى سيقودنا جميعا إلى الصدام عالجوه بمعزل عن بقية القوى، يقول شباب الثورة إنهم سيتظاهرون ضد الفلول يوم 20 فيقرر الإسلاميون أن يتظاهروا يوم 13، ولأن تظاهرتهم ضد ترشيح الفلول مصدرها الرعب الشخصى وتقديس مرشحيهم، فلم يخرج منهم هتاف واحد حقيقى ملك لهم أو يخصهم، فبعد شهور التزموا فيها بوعد أن لا يهتفوا ضد العسكر، فعلوها اليوم، وهو هتاف شباب الثورة الذى فعلها، ولم يكن يحمل فى يده بوسترا لأى شخص، فعلها صادقا فى خوفه على الوطن من العسكر والفلول دون أن يشوب هذا الخوف صورة لأبو إسماعيل أو الشاطر أو حتى البرادعى، لأنهم يرون ذلك إهانة عظيمة لمن سقطوا شهداء.
المخطط السابق، ماذا يمنع أن يكون حقيقيا؟
ارتبك المتأسلمون فعادوا إلى أصل الفكرة، مطالبين بحماية الثورة التى قالوا فى شبابها ما نعرفه جميعا، يدافعون عن الثورة لتحميهم من خطر عمر سليمان بعد أن رفضوا المشاركة لحماية فتاة (وهى إيه اللى مودّيها هناك؟)، يتحدثون عن شرعية الميدان بعد أن تَغزّلوا فى شرعية البرلمان، يهتفون بسقوط العسكر بعد أن قال الشيخ حازم إن فى القلب متسعا لأن يسامحهم.
للأسف قطار الثورة فاتهم، وهو يتحرك باتجاه آخر، صحيح يسير ببطء لكنه فاتهم، وما يفعلونه الآن ليس سوى محاولة مستميتة للقفز فى آخر عربة، وهو أمر صعب ما لم يتحرروا من الأشخاص الذين يحملونهم فوق رؤوسهم ويلهثون بهم، ربما لو تحرروا من الأشخاص وحملوا الوطن كله فوق رؤوسهم سيجدونه أخفّ كثيرا.
اقعدوا بالعافية أو موتوا بغيظكم، فعمر سليمان حلق لكم شاربه، والرئيس المخلوع الآن لم يخسر رهانه عندما قال هو أو الفوضى، أما هو فموجود بشخصه وفى شخص نائبه، أما الفوضى فما هى إلا محاولة يائسة للفرفرة على حدود الهاوية.