حياة الإنسان تكون قد أصبحت خالية تماماً من المعني، إذا فقد الناس في بلد ما القدرة علي العشق، أو الإحساس بأن الفرحة حق مشروع دائما لجميع البشر، العكس لا يقود إلا إلي ما نحن فيه.يكفي أن أشير هنا إلي مكان يعتبره أغلب الأوروبيين متخلفاً نسبياً، كل شيء يوحي بأن العرب لابد أن يكونوا قد عاشوا فيه - ذات يوم - من قرون. كل شيء: الدكاكين المتلاصقة كصفوف من علب الكبريت، والحانات الشاعرية الخافتة الأضواء التي يعكس زجاج أبوابها دخان النراجيل وملامح البشر من مواطني البحر الأبيض المتوسط، نداءات الباعة المتجولين وصياح النسوة اللآتي من مناور البيوت القديمة والوجوه المبتسمة رغم الزحام والمطر، الروائح العالقة بالجو في الشوارع الخلفية من عشاء الليلة الماضية، والفتارين المبهرجة كأغنية اختلطت فيها تموجات الحنجرة التركية مع نغمات البيانولا أو الماندولين،. تذكرت ما قاله الإدريسي في معرض الحديث عن باليرمو: هذه المدينة تحير المتأملين في أحوالها.اشتهر الملك روجر النورماندي بسعة الأفق، لم يكتف برفض المشاركة في الحملات الصليبية فقط، لكنه ألغي أيضا دور البابا كوسيط بين الله والناس، إيمانه الذي لا يتزعزع بحرية الاعتقاد هو الذي سمح لجميع سكان صقلية، يونانيين كانوا أو عرباً أو بيزنطيين، بأن يتعايشوا خارج مستنقع التطرف الهمجي الذي أدي إلي الكثير من الفظائع أثناء القرون الوسطي. كنيسة القديس يوحنا. شارك المهندسون العرب في بناء قبابها من الحجر البركاني الأسود، كذلك فلقد كان الرجل منحازاً إلي الفنون علي اختلاف أشكالها، فاختلطت الزخارف التي تشبه نقوش السجاجيد الفاطمية بأيقونات الأديرة أو أسقف الكاتدرائيات.الطريق المؤدي إلي قلب باليرمو من جهة البحر، تتناثر علي جانبيه الأماكن التي تجسد عشق الحياة لدي أهل الجزيرة، ضفائر البنات التي تتلاعب بها نسمات الشتاء المتمردة، تكتب في الهواء قصائد تتحدث عن الأمسيات الشجية في حدائق الشوق، وعلي المقاهي في قاع المدينة، شباب من الجنسين يغنون ويرقصون ويتدفأون بتبادل عبارات الغزل، لا تشغلهم كثيراً تعليقات العاجزين عن الحب.ليس من المنطق أن يظفر أبداً بالحرية من فقد القدرة علي العشق، أو الإحساس بأن الفرحة حق مشروع دائما لجميع البشر، أو من ينظر إلي الدنيا باعتبارها مجرد مكان لا يصلح إلا لانتظار الموت.