محمد حماد يكتب:طبخة الدستور الجديد، وصفقة الرئيس العتيد محمد حماد في انتظار "الحصان الأسود" وسط تخوفات تتزايد حول آخر ما تبقى من استحقاقات المرحلة الانتقالية بدأت عجلة الاستحقاقين الأهم والأخطر في الدوران المتعجل، وفتحت أبواب الترشح لموقع الرئيس لتندفع مياه كثيرة إلى النهر الذي لم يعبره أحد من قبل، ونشطت أن الحركة تجاه تشكيل لجنة وضع الدستور على أكثر من صعيد، وسط غموض يثير الشكوك تجاه مواقف القوى الرئيسية على الساحة السياسية المصرية، من الاستحقاقين معاً. المجلس العسكري له مطالب وعليه شكوك، والإخوان ومعهم حزب النور السلفي يتدثرون بموقف ملتبس لا يفصحون فيه عن اتجاه نواياهم الحقيقية، والقوى الأخرى مشتتة ومنقسمة، وتبدو خارج القدرة على التأثير الفعال في مجريات الأحداث، والشارع السياسي رغم كثرة المرشحين للرئاسة لم ينعقد اجتماعه على مرشح يرضى توقعاته، ويحقق آماله في رئيس جديد قادر على قيادة سفينة الوطن وسط أمواج متلاطمة، ومصالح متصادمة، وآمال وأشواق تريد أن تجد لها مكاناً تحط فيه على أرض الواقع. يبدو للعين المدققة فيما يجري على الساحة السياسية المصرية أن توالي الأزمات وتفاقم بعضها إلى حدودها القصوى ليست إلا حطب "النيران" التي يجري تأجيجها لتصل إلى درجة الاحتراق التي تسهل عملية انضاج طبخة الدستور الجديد، وتمرير صفقة "الرئيس". والذي يراجع المحطات الرئيسية لمسيرة عام مضى من عمر الثورة المصرية سيكتشف ذلك التفاعل الموقوت بين كل أزمة تشتعل، وبين كل استحقاق يستجد، ولعل عين التدقيق في المعابر الرئيسية التي اجتازتها مصر في هذا العام ترى أن المحصلة النهائية تضع البلاد أمام أهم استحقاقاتها، وهي في أسوأ موضع، على حافة منزلق خطر، وأمام مفترق طرق موحشة، وهي مقبلة من هذا الموضع وعلى هذا المفترق على وضع دستور جديد وانتخاب الرئيس العتيد. بعيداً عن الخوض في تكشف النوايا، والدخول في متاهات الكواليس الخلفية للمشهد السياسي، يبدو للعيان أن القوى الرئيسية على رقعة الشطرنج تواجه صفقة الرئيس القادم بالتكتم على نوياها الحقيقية، وهو ما أثار ولا يزال يثير الكثير من التكهنات والأقاويل عن صفقات تعقد بنودها في الخفاء، وتظهر بعض مؤشراتها في الكثير من الوقائع المتحركة، والمواقف المعلنة، والتصريحات المنفلتة. طبخة الدستور الجديد كانت قد شهدت حالات شد وجذب بين المجلس العسكري وجماعة الاخوان المسلمين، ومن ورائهم كافة جماعات التيار الاسلامي، ووصل الخلاف بين الطرفين إلى حد التهديد بالنزول الى الشارع، وسارعت القوى الاسلامية الى مليونية حاشدة في ميدان التحرير حشدت لها مئات الألوف من الأنصار في استعراض للقوة أعلنت فيه رفضها لما سمي بوثيقة السلمي، التي كانت تعطي المؤسسة العسكرية وضعا مميزاً في الدستور يجعلها دولة فوق الدولة، أو سلطة موازية لكل السلطات. ومن بعد وحين طرح تشكيل المجلس الاستشاري شاركت فيه جماعة الاخوان حتى بدأ الحديث عن صلاحيات سوف تعطى للاستشاري منها إمكانية النظر في المعايير التي يجب التقيد بها من قبل البرلمان بغرفتيه وهو يختار لجنة المائة المنوط بها وضع الدستور الجديد. رفض الاخوان الموافقة المسبقة على معايير تقيد أيديهم في اختيار لجنة الدستور، وانسحبوا من المجلس الاستشاري، وكسبوا معركة المعايير بالنقاط، وراحوا يتفاهمون على الصفقة مكتملة، بحيث لا يخسرون ما في أيديهم من أوراق، أو يتنازلون عن بعضها بدون أثمان. حديث الصفقة حول الرئيس القادم بدأ يطفو على السطح منذ فترة ليست بالقليلة، ويعود الآن أعلى صوتا وأكثر تأكيداً على وجودها، ويتخوف الكثيرون من أن تجعل هذه الصفقة السرية نتيجة انتخابات الرئاسة محسومة قبل أن تبدأ، حيث يتردد في الأروقة السياسية الحديث عن احتمال طرح اسم مرشح جديد فى اللحظة الأخيرة بقرار من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبموافقة تابعة من جماعة الإخوان المسلمين، ليقال أنه هو المرشح "التوافقي". صفقة من هذا النوع يرى الرافضون لها أنها توجه ضربة قاتلة للتجربة الديمقراطية الوليدة حيث تصادر على حق الشعب في أن تكون كلمته هى العليا فى اختيار الحاكم لأول مرة في تاريخه، وهي في الوقت نفسه تعيد انتاج الاسلوب نفسه الذي كان سائداً في النظام السابق. موعد الكشف عن الصفقة حسب المراقبين يقترب، ويرى البعض أن اغلاق باب الترشح للرئاسة بعد انتهاء فترة الثلاثة أسابيع هي اللحظة التي ينكشف بعدها الاسم الذي تواطأت عليه أطراف الصفقة السرية. ما يزيد من هذه المخاوف حول الصفقة المريبة أن الإخوان صرحوا بأنهم لن يعلنوا عن المرشح الذى يدعمونه إلا بعد إغلاق باب الترشح، فى الوقت الذى بدأت فيه بالفعل كل القوى السياسية تسعى لتحديد موقفها من المرشحين الذين بدأوا حملتهم الانتخابية قبل شهور. موقف الاخوان الذي يراه المراقبون حاسماً في صفقة الرئيس الجديد لا يزال ملتبساً، وخارج التوقعات، وإن بدا للكثيرين أنهم سوف يلتحقون في النهاية بالموقف غير المعلن للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. ويطلق البعض اسم الصفقة التبادلية على توافق الطرفين على أساس الرئيس لكم والبرلمان لنا، والحكومة إن أمكنا، ويشير هذا البعض إلى أن الاخوان خلال فترات طويلة من عمر النظام السابق استطاعوا أن يسيطروا على النقابات المهنية عبر الشعار نفسه: النقيب للحكومة والمجلس للإخوان. ولا شك في أن صفقة من هذا النوع وبهذه الخطورة تضع جماعة الاخوان والتيار الاسلامي من خلفها أمام ورطة مركبة: فالجماعة أعلنت مراراً بلغة واضحة أنها لن ترشح أحداً من قياداتها لموقع الرئيس، وبادرت بالإعلان عن فصل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح الذي ينظر إليه على أنه المؤسس الثاني للجماعة في السبعينيات من القرن الماضي بحجة خروجه عن قرار الجماعة بترشيح نفسه بالمخالفة لقرارها المعلن. ثم هي دأبت على التأكيد على أنها لا تفضل في الوقت الحالي وفي ظل الظروف القائمة مرشحاً اسلامياً، ما يعني أنهم يستبعدون ثلاثة من المرشحين المحتملين للرئاسة هم: الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والدكتور حازم أبو اسماعيل، والدكتور محمد سليم العوا، وثلاثتهم من أصحاب الفرص الجيدة في السباق الرئاسي. التبريرات التي يسوقها الاخوان لعدم تأييدهم لمرشح اسلامي هي نفسها التي يسوقها الآخرون كحجة على التوافق غير المعلن بين الجماعة والمجلس العسكري. الاخوان يقولون: لا للمرشح الاسلامي ، وهو ما يريده المجلس العسكري. والإخوان يقولون: نعم لمرشح توافقي، والمقصود مرشح يوافق عليه المجلس العسكري. والإخوان يقولون: الظروف غير مهيأة الآن لتولي اسلامي سدة الرئاسة، وهي رؤية تراعي فيها مؤثرات الخارج الرافض والداخل المتطلع. خريطة المرشحين الاسلاميين تضم اثنين لهما مواصفات خاصة تجعل كلاً منهما شوكة حادة في ظهر الصفقة الإخوانية ، أولهما الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح الذي ينظر إليه باعتباره المؤسس الثاني للجماعة بعد مؤسسها الأول حسن البنا، وكان لدوره منذ أواسط السبعينيات وحتى قبيل فصله من الجماعة أثر كبير في إحياء جماعة الاخوان المسلمين ومدها بدماء جديدة ضختها إليها حركة الشباب الاسلامي في السبعينيات من القرن الماضي، وكان أبو الفتوح هو عراب هذا الاحياء الجديد. وثانيهما هو الدكتور حازم صلاح أبو اسماعيل وهو نجل واحد من أقطاب الجماعة، فضلاً عن أنه كان محامياً مترافعاً في كل قضايا الاخوان في العقود الثلاثة الأخيرة، وحافظ على نقاط التماس بينه وبين الجماعة، وهو لا ينفى انتمائه إليها ولا يؤكده، ثم هو من ناحية أخرى قريب الصلة بجماعات التيار السلفي، ويعتبره كثيرون منهم واحداً من رموزهم ومشايخهم، على اختلاف بينهم لا ينكرونه ولا يضخمونه. من هنا فإن موقف الإخوان لا يثير فقط مخاوف التيار المدني والعلماني من صفقة تحتية تراعى فيها مصالح الجماعة الخاصة فوق المصلحة الوطنية الجامعة، ولكنها تثير أيضاً خلافاً قد تتصاعد وتيرته يوماً بعد يوم بين القوى والأحزاب الاسلامية. الأحزاب والجماعات السلفية رغم أنها حتى اليوم تتقيد بجوهر الموقف المعلن من الاخوان بعدم الاعلان عن تأييدها لمرشح بعينه، وهي تؤجل التصريح بمرشحهم الرئاسي حتى يغلق باب الترشيح وتعلن قائمة المرشحين النهائية ويمكنها الاطلاع على برامجهم وخلفياتهم السياسية والتاريخية، واللافت أنهم يسربون بين حين وآخر أنه "لا مانع عندهم من تأييد مرشح غير اسلامي". وربما تجد الجماعات والأحزاب السلفية نفسها محرجة أمام جمهورها الكبير إن هي تمسكت برفضها لترشيح اسلامي وتفضيل مرشح علماني حسب أدبياتهم على المرشحين الاسلاميين. جماعة الاخوان تواجه الحرج نفسه أمام الكثير من قواعدها، خاصة الشبابية منها، والتي ترى في عبد المنعم أبو الفتوح مرشحاً رئاسياً لها، بينما ترى قواعد الحركة السلفية في حازم أبو اسماعيل مرشحا أقرب إلى قلوبهم من جميع المرشحين الآخرين. ما يزيد من ورطة الاخوان ومعهم القوى والأحزاب السلفية الأخرى أن بعض القوى المدنية والديمقراطية ربما تجد في عبد المنعم أبو الفتوح مرشحاً اسلامياً معتدلاً وتوافقياً، وقد استقبلته بعض الكنائس والأديرة في صعيد مصر في بادرة تشي بالموافقة على ترشيحه وتأييده، خاصة بعد انسحاب الدكتور محمد البرادعي من السباق الرئاسي. وفى السياق ذاته، تسببت تصريحات د. محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، والخاصة بعدم تأييد الجماعة لأى مرشح إسلامى فى الانتخابات القادمة، فى حالة من الغضب من جانب الشباب الإسلامى الذى يمارس العمل السياسى، ضمن الائتلافات الإسلامية السياسية عقب ثورة يناير، وذكرت قيادات فى أحزاب «النهضة، والريادة، والتيار المصرى»، التى يؤسسها كوادر وشباب كانوا ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين، أن الأحزاب الثلاثة ستدعم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح فى انتخابات الرئاسة المقبلة، على أساس أنه «شخصية توافقية». وقد اتهم المرشح الرئاسى المحتمل د. حازم صلاح أبو إسماعيل جهات داخلية وخارجية بالضغط على التيار الإسلامى لعدم مساندة المرشحين ذوى التوجهات الإسلامية فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، نافياً وجود تنسيق بينه وبين جماعة الإخوان المسلمون أو السلفيين بشأن انتخابات الرئاسة فى الوقت الراهن. ويبدو المشهد الانتخابي الرئاسي أقرب إلى العبثية حين يؤيد علمانيون مرشحاً اسلامياً بينما يرفضه إخوانه والإسلاميون الآخرون من خلفهم، على خلفية صفقة يعتقد المراقبون أنها أبرمت بين الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي العام، صفقة تعطى المجلس العسكري حصة أكبر في تحديد اسم الرئيس الجديد، وتعطى الاخوان والسلفيين الحصة الأكبر في تشكيل الحكومة القادمة. ويشير الجدل المحتدم الآن إلى أن مسألة تشكيل حكومة الأغلبية البرلمانية قد يأتي في سياق توافق بين المجلس العسكري والقوى الاسلامية صاحبة الأغلبية الكبيرة بمجلسي الشعب والشورى على شكل إدارة البلاد في المرحلة المقبلة، حيث يرغب العسكرى فى تأمين خروجه من السلطة بشكل مشرف، وبحصة الأسد، فى حين تسعى القوى الإسلامية للحصول على مكاسب وفقاً لأغلبيتها البرلمانية، وهو ما قد يجعل المجلس العسكرى يتراجع عن تحفظه على تشكيل حكومة الأغلبية حين يأتي أوانها. ويبدو للعيان أن طبخة الدستور ستكون هي الأسهل حيث تحركت مواقف الأحزاب الرئيسية باتجاه التوافق على إبقاء نصوص الأبواب الأربعة الأولى من دستور سنة 1971 فى الدستور الجديد، وهى الأبواب التي تتعلق بطبيعة الدولة الحديثة وضمان الحريات العامة فيها، وربما بإجراء تعديلات طفيفة وإضافات لا تثير أي خلافات رئيسية، كما جرى التوافق غير المعلن على أن يكون نظام الدولة في مصر الجديدة برلمانيا رئاسياً وأن يحصر الدستور الجديد صلاحيات الرئيس القادم فى الشئون الخارجية على غرار النظام الفرنسى بحيث يكون مسئولاً عن الوزارات السيادية، وعلى رأسها حقائب الدفاع والداخلية والخارجية والعدل، وأن يكون من حقه أن يعين وزراء هذه الوزارات مقابل أن تتولى الحكومة التى تختارها الأغلبية المنتخبة من البرلمان الشأن الداخلى. أقل من ثلاثة أسابيع تفصلنا عن غلق باب الترشيح لموقع رئيس الدولة الأقدم في العالم، وربما تكون هي المرة الأولى في تاريخها الطويل التي لا يستطيع أحد أن يتكهن جازماً باسم الرئيس القادم. ويبدو للمراقب لبورصة الترشيحات أن هناك من يحاول أن يربك حسابات بعض الأطراف، خاصة إذا وضعنا في الحسبان أن أسماء كثيرة استدعيت من مخازن الدولة السابقة، سواء من المخابرات أم من الوزراء السابقين لكي تعلن عن نيتها التقدم بالترشيح لمنصب الرئيس. والباب ما يزال مشرعاً على العديد من المفاجآت في الملف الرئاسي، ويبقى الملف الدستوري مؤهلاً أكثر فأكثر لتوافق عام يسعى إليه الاسلاميون قبل المختلفين معهم، والبادي للعيان أن هناك ارتباطاً وثيق الصلة بين طبخة "الدستور" وصفقة "الرئيس"، على أساس أن الاتفاق على "الأشخاص" ربما يسهل التوافق على "النصوص". تراكم الأزمات الحقيقية والمفتعلة، وتزاحم الأسماء المرشحة أو التي يمكن أن تترشح، هذا التراكم وذلك التزاحم يظهران أن التوافق على الاسم الأكثر حظاً لم يصل بعد إلى نهايته السعيدة، ربما في انتظار "الحصان الأسود" الذي ينزل إلى الساحة في الدقائق الأخيرة قبل انطلاق السباق الرئاسي.