مشروع توثيق أعمال السيدة الفاضلة سوزان مبارك في مكتبة الإسكندرية بملايين الجنيهات! عمر حاذق في مثل هذه الليلة، ليلة السابع والعشرين من يناير الماضي، دخل مئات المصريين إلى أسِرّة نومهم، دون أن يعرفوا أن هذه الليلة هي ليلتهم الأخيرة في هذه الدنيا. لا أعرف بماذا حلموا في تلك الليلة الأخيرة، ولا أعرف إن كان كل منهم ترك قبلة على خد زوجته أو جبهة أمه أو وجه طفله. هل خطر لأحد منهم أنها ليلته الأخيرة على هذا الفراش الذي قد يكون باردا ناشفا أو دافئا وثيرا، لا فرق الآن فالقبر نومته واحدة والتراب يستوي فيه الجميع. أنا أذكر جيدا هذه الليلة. كنت قد سهرتُ أكتب قصيدة مهداة للبوعزيزي على مقهاي المفضل على الكورنيش. دخنت الشيشة وكتبت. وقبل انصرافي شاهدت تقريرا على قناة الجزيرة عن يوم 25 يناير ومدى تأثيره وتوقع نتائجه. كنت قلقا وخائفا من الموت. وكانت مشاهد قمع الشرطة لنا في مساء 25 يناير بمنطقة سيدي جابر حية في ذاكرتي. لم أكن واثقا من انتصار الثورة بأي حال رغم قناعتي بأن المصريين تغيروا يوم 25 يناير وبدأوا في كسر حاجز الخوف والنزول الفعلي للتظاهر، خلافا للمظاهرات السابقة مثل مظاهرات خالد سعيد مثلا. إلى أين نمضي غدا؟ لا أدري. هل فكر الشهداء في هذه الخواطر أيضا؟ لا أدري. الذي أدريه أنهم ضحوا بكل شيء لأجلنا نحن الذي لم نمت، والذين لم يولدوا من أولادنا وأحفادنا. وأدري أنهم ضحوا لسبب بسيط بلا فلسفات ونظريات طويلة عريضة؛ ضحوا لينهضوا بمصر ويطهروها من الفساد، وليرفعوا الظلم عن المظلومين في رزقهم أو حريتهم أو إنسانيتهم؛ يعني ليمنعوا المنتفعين ومعدومي الضمير من نهب ثروات البلد وإهدار حقوق الناس. هل هذا الكلام صعب أو عسير؟ إذا كان الكلام سهلا، فما معنى أن تقوم إدارة المكتبة بعمل مشروع كبير باسم "مشروع توثيق أعمال السيدة الفاضلة سوزان مبارك"، وهو المشروع الذي يوثّق زياراتها وأنشطتها الداخلية والخارجية وإنجازاتها. كم مليونا تم إنفاقه أو كان سيتم إنفاقه على هذا المشروع الذي أجهضته الثورة وغيره من عشرات الملايين التي أهدرتها إدارة المكتبة وكتبتُ عنها مقالات كثيرة موثقة بالمستندات؟ لقد حصلت إحدى قيادات مركز توثيق التراث الحضاري التي هي زوجة لأحد رموز الحزب الوطني، حصلت على دعم 2 مليون جنيه للمشروع من وزارة الاتصالات فقط. كم مليونا آخر كانت المكتبة ستدفعها من ميزانيتها زيادةً على هذا الدعم لأن المشروع كما كان مخططا له سينتهي بإنشاء متحف لسوزان مبارك يتم فيه تقديم عروض رقمية فائقة التقنية عن سوزان؟ شكرا للثورة التي أنقذتنا. الآن خذ هذه النكتة: الزملاء الذين قاموا بتوثيق حياة سوزان مبارك هم الذين قاموا مؤخرا بتوثيق أحداث ثورة 25 يناير، وهم الآن يعرضونها بأحدث التقنيات الرقمية في باريس!! وعلى كل لون يا باطسطه على رأي المثل. كل ذلك وحين نتحدث عن الفساد ترد إدارة المكتبة بأن التحقيقات في النيابة فانتظروا نتائجها، طبعا سننتظر كما ننتظر نتائج محاكمة مبارك وسوزان التي تصالحت معها النيابة بعد أن أعادت 20 مليونا للدولة فأفرجت عنها نيابة الأموال العامة؛ آه يا وطني كأن قوانينك مفصلة على مقاس الحرامية، الذين يعيدون ما سرقوه فتفرج عنهم نيابة الأموال العامة. وأنا لا أعرف بلدا في العالم يحق للحرامي إرجاع ما سرقه فيتم التصالح معه وإخلاء سبيله. لماذا يتقاضى سراج الدين حوالي 120 ألف جنيه شهريا، خلافا للبدلات الفادحة الأخرى؟ ليقوم بدوره التاريخي في خدمة الهانم، وبحسب التقارير الصحفية الأخيرة المنشورة في التحرير والدستور، ليهرب أموالها عن طريق مركز دراسات السلام لسويسرا. لفت نظري في التقرير أن النائب العام عبد المجيد محمود قام بتسهيل الإجراءات فور طلب سراج الدين إنهاء أعمال حركة سوزان مبارك للسرقة قصدي للمرأة، طبعا عبد المجيد محمود لا ينسى ولا يمكنه أن ينسى أفضال الهانم والباشا المخلوع. ما رأيك في هذا الخبر المنشور على اليوم السابع: "تقدم علاء سليمان المحامى، ببلاغ للنائب العام المستشار الدكتور عبد المجيد محمود يتهم فيه سوزان ثابت، حرم الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك، باستغلال نفوذها والاستيلاء على 6 مليارات جنيه من أموال التبرعات الخاصة بالجمعيات النسائية، وجمعيات رعاية أطفال الشوارع..."؟ فإذا أضفتَ إليه غسيل الأموال في سويسرا التي تديرها علية البنداري هناك وسراج الدين هنا (أمين صندوق الحركة)، ستعرف بوضوح لماذا يرضى سراج الدين بالعمل حتى الآن تحت رئاسة سوزان مبارك التي نص في اجتماع مجلس الأمناء على أنها مازالت رئيس مجلس الأمناء؟ قامت المكتبة بشراء ماكينتين "اسبرسو ماشين" ثمنهما معا يزيد عن أربعة ملايين جنيه تقريبا، هل سمعت بهذه الماكينة من قبل؟ هل تعلم أنه يمكنها أن تتلقى كتابا مكتوبا على سي دي لتطبعه أمامك خلال دقائق، المشكلة أن الماكينتين معروضتان ولم يتم تشغيلهما لطباعة كتب للجمهور مجانا أو بأجر، لماذا إذن اشترتهما إدارة المكتبة منذ أكثر من سنتين؟ ليتفاخر بهما مدير المكتبة في حواراته وأحاديثه الإعلامية. فلسفة سراج الدين في إدارة العمل الثقافي تتلخص في الأداءات المهرجانية التي ابتكرها فاروق حسني ووزراء مبارك: تقديم أعمال وإنجازات ذات صدى إعلامي ودعائي هائل وتكاليف باهظة، لكن بلا فائدة حقيقية، لماذا لم يتم استثمار الماكينتين لإضافة دخل للمكتبة من طباعة الكتب؟ بهذه المناسبة هل سمعت عن إهداء المكتبة الوطنية الفرنسية نصف مليون كتاب للمكتبة منذ أكثر من سنتين، مع رمي الكتب في المخازن حتى هذه اللحظة؟ المهم هو "الشو" والاحتفال الصاخب مع المسئولين الكبار بهذا الإهداء والابتسامات الصفراء أمام الكاميرات، أما المواطن المصري الغلبان واحتياجاته، فربنا معاه. وفقا لتقرير صحفي عالمي نُشر مؤخرا فقد سئل فاروق حسني عن طموحات سوزان مبارك، فأجاب بلا تردد: الفوز بجائزة عالمية كبرى، والمكتبة كانت بشكل ما واجهة تقدم "القديسة" سوزان مبارك التي وهبت نفسها للفقراء وأطفال الشوارع والنساء الكادحات. وصلني أيضا بلاغ موثق بالمستندات الرسمية حول ترسية مناقصة خاصة بالسقف المعلق لقاعة المؤتمرات، حيث تم طرح المناقصة بمواصفات خاصة جدا حتى لا يتقدم لها عروض غير المتفق معهم، ثم تتم الموافقة على مواصفة موجودة ومعروفة مسبقا، ولو كانت هذه المواصفة قد أعلِنت من البداية لكانت شركات كثيرة قد تقدمت بأسعار اقتصادية. تقدمت للمناقصة شركتان، إحداهما غير معروفة، فتم ترسية المناقصة على الشركة الأخرى، فتقدمت للمناقصة بمواصفات أقل بكثير مما كان مطلوبا، حيث كان السعر الذي تمت الترسية عليه 900 جنيه للمتر، وتم التنفيذ باستخدام الجبس الذي يصل سعر أغلى أنواعه إلى 35 جنيها للمتر. هذه العملية كلفت المكتبة ثلاثة ملايين وثلاثة أرباع المليون جنيه. إذا جمعت هذه الملايين وأضفتها لعشرات الملايين الأخرى التي كتبتُ عنها بمستنداتها، ستشعر أن هؤلاء الشهداء الذين دخلوا إلى أسرّتهم ليلة السابع والعشرين من يناير ليناموا ليلتهم الأخيرة في هذه الدنيا؛ ستشعر أن هؤلاء الشباب يتألمون في قبورهم الآن. نحن نحب هذا الوطن الجميل ونريد تطهيره.