أخبرني صديقٌ لي أنني جعلته في غاية الحماس للنزول يوم الخامس والعشرين من يناير المقبل، لكنه لا يدري إلى الآن ما هو الهدف من ذلك، والحقُّ أنه سؤالٌ صعب، احتجت معه إلى التوقف للتفكير ثم الكتابة. نعم، كان يمكنني أن أسرد له قائمةً طويلةً عريضةً بأهداف الثورة التي لم تتحقق طيلة السنة الماضية، أو التي تحقق عكس المراد منها تماماً، وما أردنا له أن يتغير فلم يتغير، بل ربما ازداد سوءاً، وعن الروح التي أرادوا قتلها، والثورة التي أرادوا وأدها. كان يمكنني أن أذكِّره بالشيخ عماد عفت، ذلك الرجل العالِم الذي أسر من لا يعرفه بابتسامته، والذي لن يعود اليوم الي بيته ولن يقبل أصغر أطفاله الذي لم يبلغ عامَه الأوَّل بعد، ولن يعلم رضيعه حين يصرخ الليلة أنه قد فقد أباه، لقد عاد إلي ربه ومعه عاد شابٌّ كان ينتظر التخرج من كلية الطب في العام القادم بعد رحلة شاقة من الجهد والاستذكار سيذكرها فقط والداه، مع باقي التفاصيل الموجعة لرحلة عمرٍ قدما فيها ولدًا صالحاً لمجتمعٍ يلقِّب من يموت في سبيله بالبلطجي، وطن تحول فيه الشهيد إلي رقمٍ يضاف إلي اللائحة، رقم أجوف لا يعني أيَّ شئ، تحول أثره - ذات إنسان- إلى خانةٍ في إحصاءٍ ما. ويمكنني أن أحدثه عن مينا دانيال الذي مزق قلوبنا تمزيقاً حينما رأيناه يغني مع محمد في ميدان التحرير (ليه الثورة جميلة وحلوة وانت معايا) قبل أن يصبح هو نفسه مجرد ذكرى جميلة. لكلٍّ منهم قصة لا نعرفها، كانت في قلوبهم أحلامٌ لم يطَّلع أحدٌ عليها، وأناسٌ كانت حياتهم كلُّها تدور في فلكهم، وخلفوا ورائهم في قلوب أحبائهم أوجاعاً لن يجبرها إلا الله في يوم اللقاء الأعظم. يمكنني أن أقول أشياء كثيرة بقدر دموعنا الغزيرة، كما أنه ليس لدي أدنى مانعٍ في أن يضع هؤلاء وهؤلاء أهدافًا معينةً لنزولهم وقائمةً بمطالبهم، بل يمكن لكل واحدٍ منا أن يضع لنفسه هدفًا خاصًّا لنزوله من دون أن يفرضه على أحد، أو أن يلزم أحداً برأيه ورؤيته؛ دع من يعتصم يعتصم ومن يحتفل يحتفل، ودع من يصرخ يصرخ ومن يضحك ويبتهج يضحك ويبتهج، ودع كلَّ ما ينهار منهاراً، المهم في الأمر أن نعود كلنا إلى الصورة سويًّا كما كنا، وأن يرى الذين أرادونا أن نكره الثورة بل أن نندم عليها كم كانوا مخطئين وحمقى ومغفلين، وكم أن الثورة ما زالت قويةً عفيةً كما كانت، وأننا معها إلى آخر المطاف، ووراءهم إلى آخر المطاف أيضًا. أريدهم أن يروا بأمِّ أعينهم فشل حملاتهم الإعلامية وحروبهم الدعائية وأكاذيبهم المستمرة، وسعيهم المتواصل من أجل التفرقة والتقسيم والاستقطاب، وأن المصريين حين يبلغ الأمر مداه يعودون معًا ويسيرون معًا ويدافعون عن ثورتهم معاً، وأن الشعب والشعب سيظلون برغم كلِّ ما كان يداً واحدة. نريدها رسالةً قويةً واضحةً إلى أعداء الثورة في الداخل والخارج، وإلى القائمين على الثورة المضادة التي بلغت ذروتها بأن الشعب المصري قد ازداد حبًّا لثورته وتمسكًا بها برغم كلِّ ما عاناه وكلِّ ما لاقاه في العام المنصرم، وأننا - مع كلِّ هذا التعب الذي نشعر به - (ما تعبناش ما تعبناش). وبما أنه من حقِّ كلٍّ منا أن يضع لنفسه قائمة مطالب خاصة به وأن ينادي بها فسأفعل ذلك، لكني لن أتوجه بمطالبي هذه المرة إلى المجلس العسكري، أو إلى حكومة الحزب الوطني المعروفة بحكومة الجنزوري، أو أمانة السياسات الجديدة التي تسمى أيضًا بالمجلس الاستشاري، لأنني سئمت من يخذلني ومن أعرف مقدماً أنه سيخذلني ولا بد، بل سأتوجه بها إلى إخوتي الذين لم يخذلوني في يومٍ من الأيام، إلى شعب مصر الذي يفاجئني ويبهرني دومًا بوعيه وفطنته وعميق إحساسه. أطالبك بأن تنفض عن نفسك غبار السنين الذي يغطينا، وأن تتجاهل المرارات والأحقاد التي أصابتنا خلال الفترة الماضية تجاه أي أحدٍ كان، وأن تعرف أن المساحة الضئيلة التي يملؤها وجودك في أية مسيرةٍ أو أي ميدان لن يملأها أحدٌ غيرك، وستحدث فرقاً لن يُحدثه إلا أنت. أطالبك بأن تترك سيارتك جانباً، وأن تخرج مع أسرتك أو أصدقائك، أو أن تخرج وحدك مصحوبًا بعلمٍ واحدٍ هو علم مصر، وأن لا ترفع لافتةً حزبيةً أو شعارًا سياسيًّا خاصًّا بك، لنعود ولو ليومٍ واحدٍ فقط إلى ما كنا عليه، بدلاً مما صرنا إليه. أطالبك بالاحتفاء بشهدائنا وجرحانا برفع صورهم وأسمائهم عاليًا في كلِّ شارعٍ من شوارع مصر، للتأكيد على أننا (لم ولن) ننساهم، فإذا كانوا هم الأصفياء فسنكون نحن الأوفياء بإذن الله تعالى. أطالبك بأن تكون يومها مرفوع الرأس وإن كنت بائسًا، وأن تهتف مع الهاتفين بأعلى الصوت وإن كنت متشككاً يائساً، وأن تشاركهم فيما يقولون وبالذي ينادون وإن كانت لك وجهة نظرٍ أخرى، فتلك هي أخلاق الثورة وروح الميدان كما تعلمناها. أطالبك بأن تدخل البهجة مرةً أخرى على قلوب أمهاتنا وآبائنا الأصلاء الطيبين، حين يفتحون نوافذهم التي أغلقها الخوف على مشهدنا ونحن ندوي بأصواتنا المجلجلة ونسير في حشدٍ واحدٍ وجسدٍ واحد، نحييهم ويحيوننا، ويشدون من أزرنا ونشد من أزرهم، وأن نهديهم ونهدي أنفسنا ذلك الشعور الرائق والرائع بالأمل حين ينبعث من رماد الإحباط والحزن واليأس. وأطالبك أيها المحتفل المبتهج ألا تنكر على الغاضب المعتصم والعكس بالعكس، وليس أقلَّ من أن تدعو له بالسلامة والتوفيق وأنت عائدٌ إلى منزلك. ثم أطالبك بأن تعيد قراءة هذه المقالة يوم الرابع والعشرين من يناير.