تأملت (أنا الملاك الحارس والراوي لتاريخ مصر) من موقعي فوق سحابتى المفضلة ما يحدث بأسفل.. أنطلقت المدرعات فى إتجاه المتظاهرين (إسمهم الآن الخوارج) العزّل أو المسلحين بالطوب والعصى وزجاجات المولوتوف البدائية لتعمل فيهم -المدرعات- حرقاً وسحقاً وتقتيلاً.. أطلقت مجموعة من الجنود قاذفات اللهب على بعض المتظاهرين، وأمطرهم أخرون بالرصاص الحىّ، وهجمت كتيبة كاملة من الجنود الملتحين المسلحين بالسيوف على مجموعة من الفتيات والشباب الغض الصغير لتمزقهم أشلاء.. صوت سحق العظام واللحم والبكاء والصراخ المختلط بالهتاف يدمى قلبى ويشتت تركيزى.. نظرت برجاء إلى السماء منتظراً إذناً بالتدخل أعلم انه لن يجئ.. خفضت رأسى محاولاً مواصلة الكتابة فسقطت الدموع من عينى فأرعدت السماء وسقطت الأمطار كالسيول.. وواصلت الكتابة.. ظهرت الدعوة لمظاهرات «25 يناير» فى منشورات «6 إبريل» (طبقاً لكل الصحف القومية والملاكى وبيانات الداخلية فى هذا الوقت والتى أنكرت جميعها فضلهم فيما بعد قائلين إنها ثورة شعبية)، وظهر للمرة الثانية غباء -أو خوف- الإدارة الأمريكية جلياً (الأولى كانت مع ثورة تونس) فى تصريح «كلينتون» يوم 21 يناير: "كرة الثلج التونسية لن تمتد لدول أخرى". وفى مصر أول من أيد مظاهرة «25 يناير» التى دعت إليها «6 إبريل» كان «البرادعى» فى تصريح للمصرى اليوم عدد 22 يناير. وأول من دعى لإستمرارها عدة أيام لتحقق الصدى والهدف المطلوب هو «أيمن نور»، وأشتركت «كفاية» و«الوطنية للتغيير» و«الإشتراكيين الثوريين» وشباب «الوفد» و«الإخوان» (بصفتهم الفردية) منذ اليوم الأول، وأعلن «الحزب الناصرى» عدم المشاركة متعللاً بحجة مضحكة "إن يوم التلات أجازة"، وصرّح رئيس «حزب التجمع» بأنه لن يفسد على الشرطة يوم عيدها(!). وآتى اليوم المشهود الذى لن تعود مصر إلى ما قبله أبداً (هكذا ظننت وقتها).. أشتعل البلد الذى طال سباته بالغضب منذ ليلة الخامس والعشرين. بدأت التظاهرات فى القاهرةوالسويس والأسكندرية ثم تلتهم باقى المحافظات تباعاً. وكما توقعت (وقتها) قاومت الشرطة بوحشية (لم أتوقعها ولم أرها حتى من الإسرائيليين ضد الفلسطينيين ولا من الروس ضد الأفغان)، وتساقط قتلى ومصابين وصحفيين فى اليوم الأول بالتوازى مع أقذر وأكبر حملة تشوية إعلامية عرفها التاريخ منذ دعاية هتلر النازى بالتعتيم الإعلامى على التظاهرات (مشاهد الكوبرى الخالى والنيل والمراكب الملونة) وأخبار إنهيار البورصة والجنيه، وإشاعة أخبار عن جواسيس وعملاء وتمويل خارجى ومؤامرات للتخريب، وعندما لم يفلح كل هذا أن يفت فى عضد المتظاهرين قطعت الإتصالات الهاتفية والإنترنت وبالتالى الفيس بوك والتويتر، وقاومت الشرطة المتظاهرين بالحصار والمدرعات والمصفحات والأمن المركزى والقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحى والإختطاف والإعتقال، وظهر القناصة المحترفون للوجود، ولكن إرادة الثوار وحرارتهم كانت تفوق الجحيم المصبوب عليهم. وفى يوم 28 الذى شهد ذروة الإحتجاجات أحترق المقر الرئيسى للحزب «الوثنى» فى القاهرة، وفُرضت الإقامة الجبرية على «البرادعى» فى منزلة (عشان اللى بيقولوا مانزلش ليه) بعد أن صلى «جمعة الغضب» فى الجيزة مع المتظاهرين، وظهر البيان الأول (أغبى واحد) للوجود، والذى قال فيه «مبارك» بصفته الحاكم العسكرى: "نظراً لما شهدته بعض المحافظات من أعمال «الشغب» والخروج على القانون وما شهدته (تانى) من أعمال النهب والتدمير والحرق والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، بما فى ذلك بعض البنوك والفنادق، أصدر السيد رئيس الجمهورية بصفته الحاكم العسكرى قراراً بحظر التجول من الساعة السادسة مساء حتى الساعة السابعة صباحاً، اعتباراً من اليوم (الجمعة) ولحين إشعار آخر". وفور إعلان القرار إنتشرت مدرعات الجيش فى الشوارع، وحاصرت مبنى الإذاعة والتليفزيون وتسلمت قواته مدينة السويس من الداخلية، وردت الداخلية بفتح السجون وحرق الأقسام والقتل العشوائى للثوار وتسريح البلطجية ومسجلى الخطر على الطرق الرئيسية فى المدن وشهدت مصر أكبر حالة إنفلات أمنى وفوضى وسرقة فى تاريخها الحديث مدعومة من الداخلية والجيش ومبارك، وأكبر دليل على ذلك حصار الجيش لميدان التحرير وإمتناعة عن عمل ذلك فى أماكن تجمع البلطجية على الدائرى وطريق الأسكندرية والسويس! ونشرت المصرى اليوم (عدد 30 يناير): "أن مسئولاً أمنياً رفيع المستوى أصدر أوامره لجميع قطاعات وزارة الداخلية بإخلاء مواقعهم، والانسحاب من الشوارع والمقار ونقاط التفتيش والمرور، وترك أقسام الشرطة، فى الوقت الذى كشف فيه شهود عيان عن قيام «عناصر أمنية» بإحراق عدد من أقسام الشرطة. وقال مصدر أمنى إن هناك جهة أمنية تابعة لوزارة الداخلية فرضت كلمتها على خطة الوزارة، وقررت الانسحاب ودعم سيناريو الفوضى، وإطلاق سراح المساجين والبلطجية والمسجلين خطر، والمساعدة فى أعمال التخريب والنهب عبر غض الطرف عنها". وعُين «عمر سليمان» نائباً و«أحمد شفيق» رئيساً للوزراء وعرفنا ما يسمى باللجان الشعبية، وظهرت المستشفيات الميدانية فى التحرير، وتم تقديم ميدان «مصطفى محمود» كمعادل للتأييد أمام الرفض، وأغلقت البنوك والبورصة والمطارات، وكتب حازم الببلاوى "ليس شغباً .. بل هى الثورة". وتعهد «المكنوس» بعدم الترشح وتغيير المادتين المشئومتين وملاحقة الفاسدين فى محاولة لإمتصاص الغضب ولكنه فشل بإمتياز لأنه بعد ساعات من خطابه الكاذب حدثت واحدة من أكبر المآسى فى تاريخ الثورة.. موقعة الجمل.. والتى دبرها مجموعة من نظام «المخلوع» بالإتفاق مع أجهزته الأمنية ومباركة الجيش الذى فتح الطريق للدواب التى تركب الدواب لسحق المتظاهرين بعد أن «تفرّج» عليهم لمدة يومين وهم يحترقون بالمولوتوف وتضيع أعينهم ويسقط شهداء منهم أمام المتحف المصرى دون أن يحرك ساكناً. فى هذه الأثناء أختفى «وائل غنيم» والذى عرفنا فيما بعد أنه خطف من «أمن الدولة» وأسقطت الجماهير تابوهاً أخراً بضرب «تامر حسنى» فى الميدان، ودعا «ضياء رشوان» المتظاهرين للعودة لمنازلهم حاملاً معه وعداً من أولى الأمر «بخروج آمن» (!) كدليل لإستمرار مسخرة قلب الحقائق، ومعاملة المجنى عليه معاملة الجانى (المستمرة حتى الآن) وظهر «طلعت زكريا» بشهادته الزور عن «الجنس الجماعى» ورجائه للجيش أن يضرب المتظاهرين بالدبابات، ودعت «سماح أنور» لحصار المتظاهرين وحرقهم، وظهرت وسائل جديدة لتأليب الرأى العام مثل «تامر» من غمرة و«نجاة» من 24 ساعة، و«محمد حسان» مع «سيد على» و«هناء السمرى» داعياً المتظاهرين للعودة ووأد الفتنة، وبرغم كل هذا أتت جمعة مليونية «الرحيل أولاً» فى 5 فبراير لتعلن أنه لا تفاوض قبل رحيل قاتل شعبه ومحاسبة معاونية. ظهر «أسامة الباز» فى التحرير، وطالب «فاروق الباز» المتظاهرين بألا يتنازلوا أو يتراجعوا حتى رحيل «مبارك»، وبعيداً عن «التحرير» عاد الآكلون على كل الموائد ليديرون حواراً وطنياً (هكذا أسموه) مع «المخلوع» وولده، وقد ساهم والحمدلله فى تسريع خطا الثورة للقضاء على كل الأغبياء الذين لم يتعلموا الدرس أبداً وطنطنوا بتصريحات عن الإستقرار أو الفوضى والأيادى الخارجية.. ونكمل المقال القادم لو كان فى العمر بقية..