كثير من الدقة ينقصنا جميعا هذه الأيام. حتى الحزن والغضب ينقصهما الدقة. مشهد الفتاة المسحولة يرفضه الواحد بالفطرة، الفطرة تحكم حقيقة شعورك تجاه هذا المشهد، الفطرة هى التى تجعلك تتجاوز الديانات والظروف أمام مشهد هيكل عظمى لطفل إفريقى فى مجاعة، الفطرة السليمة ستتأذى من المشهد، وسيحلم صاحبها لو أن فى يده شيئا يقدمه إلى هذا الطفل، بغض النظر عما أوصله إلى هذه الحالة. الفطرة (بتاعت ربنا) تجعلك تضرب فرامل مؤذية وتشعر بالذعر يختلط بالإدرينالين فى جسدك إذا لمحت فى أثناء سيرك قطة متهورة تعبر الطريق أمام سيارتك فجأة.. الفطرة هى التى تدفعك إلى هذا التصرف لأنك تؤمن أن القطة (روح برضه زينا). أنت تتحدى فطرتك عندما تتجاهل أصل المشهد وتهتم بخلفيته، تتفنن فى تجميد خام المشاعر التى رزقك بها الله لإثبات وجهة نظر سياسية، لا أقول لك ثُر على المشهد وشارك فى الاعتراض عليه، لكن من الدقة أن تتأذى أولا وأن تنحاز إلى فطرتك التى خلقك الله عليها ثم ابحث للمجلس العسكرى عن مخرج من هذه الورطة، ليس طبيعيا أو فطريا أن تدهس القطة ولا تتأثر، بل وتقول «أكيد هيه اللى غلطانة، إيه اللى خلاها تعدى الشارع فجأة كده»، صدق أو لا تصدق أنت الخاسر الأول فى هذه البجاحة، وأدعو الله أن يجعلك تختبرها بنفسك حتى تعود إلى فطرتك وتعرف أن الله حق. نحتاج إلى الدقة حتى فى مطالبة الناس بأن (عودوا إلى بيوتكم وكفاية كده)، من حقك تماما أن توجه هذه الدعوة، وقد أشاركك فيها، لكن كن دقيقا واطلب من الناس العودة إلى بيوتها مقابل أمور محددة تجعلهم مخطئين إن رفضوها، قل لهم عودوا إلى بيوتكم ودعونا نشعر باستقرار نفسى على أن تروا بأنفسكم القتلة سواء كانوا جنودا أو طرفا ثالثا دخيلا يقف أمام جهات التحقيق، عودوا إلى بيوتكم وامهلوا القوى السياسية الشرعية وقتا لإدارة مطلب تسليم السلطة، عودوا إلى بيوتكم ولو لمجرد أننا أصبحنا نخاف عليكم ولا نملك شيئا نقدمه لكم، ليس من الدقة أن تقول لهم عودوا لمجرد أنك تريد منهم أن يردموا بركة الدم علشان حضرتك عايز تعدى. نحتاج إلى الدقة حتى عند الاعتصام، المطالب المشروعة لا تكفى، والنوايا الحسنة صالحة للعمل فى سويسرا، أما فى دولة عالم ثالث يحكمها عسكر يثرثرون دائما عن عنصر ثالث فلا معنى لها، الدقة تجعلنا نؤمن أن الاعتصام مسؤولية المعتصمين وأنا شركاء فى وقوع الضحايا لأننا نعجز كثيرا عن حمايتهم ولو من أنفسهم الغاضبة، الدقة تجعلنا مضطرين إلى اتقاء شر وقوع ضحية واحدة فى بلد لا يبكى ضحاياه لكنه يجلدهم بعد الموت. حتى حزنك على المجمع العلمى ينقصه كثير من الدقة.. المسؤولون عن المجمع شركاء فى الأمر، مكان مثل هذا يضم جزءا من تراث مصر فى مبنى قديم متهالك، أليس هذا المبنى معرضا لحريق ضخم من مجرد عقب سيجارة أو خفير يعد بعض الشاى فى الليل؟ كيف تحتفظ بهذا التراث فى مكان كهذا من دون تأمين حقيقى ضد الحريق؟ نوادر الكتب التى يتفنن العالم فى حمايتها وتأمينها كان واردا أن نفقدها بسهولة وبأسباب أقل شأنا من حريق المولوتوف مثلما فقدنا العشرات فى حريق مسرح بنى سويف أو مثلما فقدنا دار الأوبرا الأصلية أو بيت الجوهرى أو أحد مبانى هيئة قناة السويس الأثرية، لماذا نتفنن فى اللطم بعد الكارثة؟ ولماذا لا نحاسب المسؤولين بالأساس عن حماية هذا التراث النادر؟ بلاش..! مع كامل الاحترام لأمير الشارقة وكامل التقدير لدعمه.. كيف يحتفظ الأمير بنسخ أصلية من تراث مصر النادر؟ كيف وصلت إليه مخطوطات هى ثروة قومية تخصنا ولا معنى أو مبرر لوجودها فى الخارج؟ حتى تكون دقيقا فى حزنك على المجمع يجب أن تعرف من المسؤول عن خروج هذا التراث من مصر ووصوله إلى سمو الأمير؟ هل كانت هدية من المسؤولين فى مصر؟ ومن الذى يملك أن يهادى جهة ما بتراثنا؟ أرجوك تأمل المشهد من كل جوانبه حتى يكون حزنك دقيقا ويصبح طريقة للبناء وليس أداة للهدم تستخدمها على مزاجك وأنت لا يعنيك المجمع قدر ما تعنيك أمور أخرى، أنا وحضرتك نعرفها جيدا.