لسبب يتعلق بالحدس أكثر من تعلقه بوقائع محددة .. أصبحت أحمل معي منذ بداية أحداث شارع محمد محمود نسخة من رواية "واحة الغروب" لأديبنا الخالد بهاء طاهر . فمن يكتب دون عمق في تاريخ و نفس أمة قد يأخذ بالطبع لحظة نشوة و إنتصار فيمجدها ، اما من يريد كشف مخزون وجع لا زال مدفون فسينحاز بالتأكيد لإختيار بهاء طاهر بروايته وهو يبحث فى مخلفات نفس ضابط الشرطة "محمود عزمي" و قد تبدلت الحياة فأصبح ثوار أمس هم "العصاة" و "الثورة" هى "هوجة" .. انمحت كلمات الوطنية من على الحيطان اما من ضبطها لا زالت مسجلة فوق جدارن قلبه فعالجها بطريقته ما بين إنكار و كذب لدى الأغلب وإشهار موقف و قبول بعقاب القتل و العزل لدي أقلية .. غالباً "مندسة". هي الثورة العرابية .. طالما افتخر بها جيل يناير بشكل خاص حتى و قبل أن تكتب لهم الدنيا ثورة .. كان هذا الجيل يسترضي حلمه و يستنطقه عندما يذهب للتظاهر امام ساحة قصر عابدين فيروا هناك الرجل الغليظ نفسه لا زال ينطق بالشراكسية ثم العيون تتلألأ حين تتعلق بأكتاف الضابط الفلاح الشاب فوق ظهر حصانه و هو يقول "لقد خلقنا الله أحرارً و لن نستعبد بعد اليوم" .. كانوا يسمعونها جيداً رغم زحف فرق كارتيه الأمن المركزي و بدء حفل السحل و التلطيش و الزج بعربات الترحيلات وفق نسخة التنكيل و القمع بالقرن الواحد و العشرين. بالأخير حصدوا هم أيضا ثورة .. رأوا بها نفس الألق يزيده عدم وجود قائد محدد .. ملايين يندفعون بيوم "جمعة غضب" فتعيد أخرى قديمة وافقت 9 سبتمبر 1881 حين أكتظت أرجاء نفس الشوارع بهتافات تطلب تحقيق مطالب الضباط و إيجاد مخرج وطني شريف. فرحوا و احتفلوا لفترة أشبه بحلم وردي.. فالحاكم قال أنه سيخضع لمطالب الشعب و شرع بالفعل في وضع دستور جديد و تشكيل حكومة "ثورة" .. حاول بكل الطرق إبعاد عرابي و تشويه صورته و لكنه بقى دائما بدعم كامل من البسطاء و مجلس نواب وليد "الثورة" كلمة تزين.. إسم "احمد" و "سامي" تُطلق على عشرات المواليد .. لكن الأحلام بالطبع تنتهي .. المتشبثون بالحلم يتابعون الحاكم .. يتلكا ثم يسرع ثم يتلكأ في إتجاه الكشف عن وجهه و إنحيازاته ..جاءت النهاية .. لم تكن صدمة أن ينحاز ضد ثورتهم.. فقط كانوا يكذبون فيه أنفسهم لعًل الحياة تأتي بشىء فريد إلا أن أعلنها واضحة انا ضدكم و مع "المحتل الجديد". عادت الثورة هديرها الأول، أعلن عرابي و الجمعية العمومية أن الخديو خائن و أن الدفاع عن الإسكندرية ضد تذرع الإنجليز بضربها بحجة حماية رعاياها هو امر واجب ، صعد نفس الفلاحين بجلاليبهم إلى الطوابي على ساحل بحر الإسكندرية شاركوا عساكر الجهادية في ضرب المدافع الهزيلة . معركة فريدة يصح معها قول إحدى بطلات واحة الغروب "فيونا" : "لكن في بلادنا لا تنزع الهزيمة البطولة عن الثوار" لكنها هكذا فعلت في مصر فقد تابعت الفتاة الأيرلندية مشدوهة تجرؤ اليوزباشى وصفي نيازي وهو يجلس في بيت زوج إختها محمود عزمي و يقول "أن الخديو الجديد يؤيد تدريس تاريخ الإنجليز بدلاً من التاريخ المصري لتفادي مرحلة الفتنة و تاريخ العصاة بقيادة عرابي" .. هتفت "عرابي باشا !! .. كنا نتابع أخبار العرابيين بشغف فكيف يتحولون لمجرد هزيمتهم إلى عصاة، أغلب ثوراتنا تم وأدها على يد الإنجليز و لكن .. " الهزيمة لا تنزع أبداً البطولة عن الثوار". أضيف لقولتها إن سمحت و سمح الأديب العظيم مقولة الشاعر الفلسطيني مريد برغوثي: "البطولة أن يبقى لديك أمل رغم تاريخ ملىء بالهزائم" ، فما يأي بالأكيد أصعب. "لن نستسلم ".. هذا ما أؤمن به و ملايين آخرى لا أعرف في أى صف اقف في ترتيبها لكن بالتأكيد ليس في الصفوف الأولي حيث يأتي شهداء و مصابين و شباب يهتفون بصوت عالي عند بدء الهجوم الوحشي "إثبت .. إثبت".. أحاول الثبات قدر الإمكان و بالنهاية ابتعد و إن كنت أجدد في كل مرة إستعدادي بيني و بين نفسي لا للشهادة فقط ولكن للقاء أشخاص هم الأقرب إلى قلبي و سبقوني الى مكان بعيد. في حلمي المفتوح .. أرفض أن يجرؤ أحد بالإشارة الي إنتهاء الثورة .. و لكن كيف أنكر سؤال يجز داخل نفسي بتلك الأرجاء المظلمة.. هل نتحول إلى "عصاة" ؟ ..هل ينكرنا التاريخ ؟ هل يكتب بهاء طاهر عن واحة غروب أخرى؟ هل .. يأتي يوم يعيش فيه أى من الثوار عذاب المأمور "محمود " قبل أن يأخذ قرار فردي بالرحيل .. فيومها فقط أدرك انه لم يعد هناك مجال لمزيد من جلد نفس بإسترجاع تلك اللحظة التي اغتالت روحه منذ زمن حين سألته جهة التحقيق : "هل كنت تؤيد عرابي و زمرته؟" .. قال : بل كنت من الساخطين على أفعال البغاة !! .. لا نعطي فأل "شؤم" على ثورتنا .. و لكنها دعوة لتجديد النية و التفكير ..