عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بهاء طاهر يكتب عن مأزق تاريخي ومجتمعي بعد هزيمة ثورة عرابي
نشر في القاهرة يوم 30 - 03 - 2010

وبطبيعة الحال لا يذهب بهاء طاهر ولا تذهب روايته الممتعة إلي أن التاريخ تكرار للحاضر، بل هو مجرد تفسير لهذا الحاضر. فالحركة العرابية بروافدها وطبقاتها المتعددة حظيت الآن في مصر بدراسات تاريخية متعمقة قد فندت الافتراءات التي ألصقت بها في عصرها وفي أعقابها. لقد كانت حركة وطنية مناهضة لاستبداد الخديوي توفيق الذي أجلسه الأورويبيون علي العرش بعد عزل اسماعيل 1879، فهو مجرد جامع للضرائب لسداد ديون الأجانب ومنفذ لسياستهم ولسياسة حلفائهم العثمانيين في مصر. وقد قام البريطانبون بالغزو من أجل ألا تنجح عملية الثورة في تشكيل نظام مستقر قد ينهي الامتيازات الأجنبية ويهدد أمن الملكيات والاستثمارات المتعاظمة من أجل أن يترسخ ضم مصر إلي امبراطوريتهم العالمية الفتية ونزعها من قبضة الامبراطورية العثمانية المتداعية، ومن أصحابها المصريين. فالرواية تقدم لمحة عن علاقة مصر بالامبراطوريات وبصعودها واضمحلالها وتداولها.
تمرد متعدد الطبقات
كما تحكي عن تمرد وطني مصري متعدد الطبقات اشتعل في أيام اسماعيل واحتدمت ناره في أيام توفيق، وقام به المصريون من كبار ملاك الأراضي والفلاحون الأغنياء والفلاحون الفقراء والمتوسطون وتجار المدن والمثقفون وطوائف أصحاب الحرف وأبناؤهم الضباط والجنود، كل هؤلاء في مواجهة نخبة حاكمة مزدوجة أوروبية ومعها نخبة تركية المنشأ. كانت هناك مظالم الفلاحين من كبار الملاك العثمانيين ومظالم طوائف التجار والحرفيين من المنافسة الأوروبية (خسر والد بطل الرواية متجره لتاجر يوناني) ومظالم الضباط المصريين من هيئة القيادة الشركسية. واستطاع المثقفون توظيف التجمعات والمنتديات السياسية والصحافة الخاصة الجديدة في خلق روح معارضة وأجواء وتحركات تذمر. وتكشف الرواية من خلال تصويرها أن العلاقات الرأسمالية الوافدة نمت وواصلت نموها ليس من خلال التصنيع ولكن من خلال المحاصيل النقدية وملحقاتها وخاصة القطن. وبرزت بريطانيا باعتبارها الشريك الأساسي لمصر التي أصبحت جزءًا من الاقتصاد الرأسمالي العالمي الحديث. ولكن التطور الحديث لم تستفد منه إلا مجموعة محلية صغيرة أغلبها من ذوي الأصول غير المصرية والتجار الأجانب ورجال المال. وبحلول سبعينات القرن التاسع عشر صار العثمانيون المقيمون في مصر يتحكمون في نحو ربع مساحة الأراضي. واستمر العثمانيون والشراكسة يمارسون احتكارًا للوظائف الحكومية العليا ولفيالق الضباط (الأصول الاجتماعية والثقافية لحركة عرابي في مصر؛ تأليف جوان كول، ترجمة عنان الشهاوي ومراجعة وتقديم عاصم الدسوقي).
ولكن هذه الرواية عمل فني وليست توثيقًا أو تحليلاً تاريخيا. إنها تقدم شخصيات حية في مواقف وأوضاع وحالات نفسية وصراعات يومية تنتمي إلي ما قبل تاريخ الحاضر. وهي تقدم عالم الماضي دون حنين مرضي أو تمجيد خادع أو تشويه ظالم. هناك شخصية مأمور الواحة محمود عبد الظاهر يكاد أن يكون وعيا يلعب إدراكه للأحداث والشخصيات دورًا توحيديا مهمًا ودورًا جماليا مهمًا دون أن يفرض علي الرواية وعيا متجانسًا أو يكون مكبر صوت للمؤلف المسئول عن تصميم العمل وعن معناه. ونحن بالقراءة نسترق السمع إلي شخصية مأمور الواحة في أفكاره وذكرياته وانطباعاته التي لم ينطق بها لأحد وهوالذي يلخصها وينتقيها ويتمسك فيها بما يشبه المنطق المعقول والبناء النحوي دون أن تصير تدفقًا سيالاً متصلاً بلا علامات حدود.
وعند محمود لا نلتقي بالتاريخ كرصد موضوعي علمي ولا بمنهج تاريخي يتفهم التغير والتطور كما هو الحال مع المؤلف الضمني، بل بالتاريخ بوصفه تجارب حية جمعية عاشتها جماهير المصريين في مرحلة فاصلة، تجارب أحدثت مشاعر جديدة، وأبرزت قيمًا جديدة واحتياجات جديدة، وذلك دون أن تنسب الرواية أفكار ومشاعر المصريين المعاصرين إلي الماضي ودون أن تحول شخصيات الماضي إلي كائنات متحفية منقرضة لا تثير إلا التعجب أي ليست واحة الغروب عملاً يستهدف تحديث الماضي وإسقاط الحاضر عليه كما أنها ليست عملاً يقوم باستحياء عظام نخرة. إنها رواية تدرك قوانين التطور وتناقضاته ومرتفعات التاريخ ومنخفضاته، وفترات ما فيه من مد وجزر.
تعدد الأصوات
الرواية بها كثرة من الأصوات المختلفة يعبر كل منها عن وعي مستقل، ومصير مستقل تجمعها معًا وحدة الأحداث في عالم موضوعي مفرد (باستثناء صوت الإسكندر) ولكنها لا تنصهر معًا في وحدة الأحداث، وكل صوت ليس لغويا فحسب بل تشكله شبكة من المعتقدات، وفي كل منها يقبع وراء ما يبدو ذاتية متفردة ذلك الإحساس بمأزق تاريخي عام. فالأجيال كلها محاصرة بين عصرين وبين نمطين للحياة، وتغيب عنها المعايير المتجانسة والطمأنينة والتوافقات البسيطة، ولم يعد وعي الشخصيات الرئيسية كيانًا متماسكًا، بل صيرورة حافلة بالتواترات. أما نظرة المؤلف المعيارية إلي شخصيات الرواية فتتجلي في ترتيب العلاقات بين الشخصيات وفي ممارستها للأفعال فذلك مؤشر لأن يقف المؤلف من الشخصيات ذات الاستقلال الجذري.
وكان المناخ العام للمرحلة التاريخية التي تحدثت فيها الرواية بعد هزيمة جيش العرابيين يتسم بتعاظم دور المهادنة والتحالف مع امبراطوريةصاعدة وسيادة نظام قمعي شديد البطش، وهجوم مستمر علي الحركة الوطنية، وتزييف تبريري للواقع بتقديم أكاذيب عن تناغم المصالح بين الاتجاهات التي كانت متصارعة. كما أن الشخصية الرئيسية التي ستصير مأمور الواحة في الرواية ليست الشمس التي تدور حولها الكواكب أو تدور الشخصيات الأخري، بل وظيفته في موقعه الذي فرض عليه التوسط بين الطرفين المتصارعين الأساسيين مقارنة خصائص هذين الطرفين للتعبير عن الأزمة الكبري للمجتمع في الصلة بينهما ووضعهما في اتصال وتلامس واحتكاك فيما يشبه أرضًا صارت مؤقتًا محايدة يلتقي خلالها الطرفان المتحاربان. فلا توجد في التاريخ أي حرب أهلية أو معارك اجتماعية تبلغ من الضراوة كما يقول جورج لوكاتش في كتابه "الرواية التاريخية" حد تحويل السكان كلهم دون استثناء إلي مشاركين إيجابيين شديدي الحماس لأحد الجانبين المتصارعين؛ فهناك دائمًا أقسام كبيرة تقف دائمًا بين المعسكرين بقدر من الارتباط المتأرجح لأحدهما الآن ثم للآخر بعد ذلك. وقد لعب التأرجح تاريخيا دورًا في حسم النتيجة. ففي وقدة الصراع هناك استمرار الحياة اليومية ومطالبها مما جعل محمود يخون العرابيين في التحقيق لينجو بجلده ويحتفظ بوضعه الاجتماعي. وكان موقف البين بين لا ينبع من صفات سيكولوجية فحسب بل من هذا الوضع الاجتماعي لأفراد يقعون في الوسط. كان البلد يغلي في آخر أيام اسماعيل، ومحمود يتلكأ في المدرسة التجهيزية حتي سن العشرين، يعرف النساء ويعاشر الجواري ويقضي الليل بين المقاهي والحانات. وفي بيت والده التاجر الميسور ولائم وحفلات المطربين والمطربات. وبالمصادفة قادته قدماه إلي مقهي متانيا بميدان العتبة ليدمن -إلي جانب الخمر والنساء- مجالس شيخ معمم -جمال الدين الأفغاني- وقراءة صحف تلاميذه حيث يتشبع بهوي مصر للمصريين ويعود إلي البيت ليدور مع أبيه والمريدين في حفلة ذكر.
إنه شاب موزع الروح من الصعب أن تلتئم أجزاؤه وقد تزيدها الأيام تبعثرًا، فالاستقرار مراوغ واليقين الوحيد هو البذلة الرسمية التي يلبسها، يقول الشيء وعكسه ويفعل أشياء متناقضة دون أي تمهيد. وسنري تلك الصفة متكررة في شخصيات الرواية الأساسية. وإذا قارنا ما في الرواية من سيرة ذاتية لهذه الشخصية مع السيرة الذاتية التي كتبها أحمد عرابي بالفعل لاحظنا الهوة بينهما. فعالم أحمد عرابي تغمره التصورات الراسخة والعقائد الصلبة، مترع باليقين الديني مع السياسي، والتأكد من ضرورة السيطرة علي مصر، ويغيب عنه أي تأمل من جانب عرابي لدوافعه أو مشاعره الذاتية فثقافته ترتكز علي الهوية الجمعية ومطلب التماسك الاجتماعي وأي ظهور للشكوك أو نواحي التردد والضعف يتنافي مع اللياقة واحترام الذات. وكان عرابي يقوم بمهمته الثورية في الزي الخارجي للحظات تاريخية سابقة، عصر الخلفاء الراشدين وخصوصًا عصر عمر بن الخطاب (متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا) الذي فتحت مصر أثناءه. كما يذكر السرد أفرادًا في العالم الروائي عاشوا في العالم التاريخي الواقعي هم، بالإضافة إلي عرابي، الإسكندر الأكبر والبطل الوطني محمد عبيد والخائن خنفس؛ وكلهم يسهمون في إضاءة مادة التناول الأساسية التي تصير عند تجريدها تيمات الخيانة والموت والحب.
معني الحياة
وفي الشخصيات والأفعال المتخيلة يركز السرد علي مشاكل معني الحياة التي تقبل المقارنة بين المراحل التاريخية المختلفة مهما يتباعد بينها الزمان. كما أن وعي الذوات بنفسها يحدث في الرواية من خلال تجارب حياتها، فهذا الوعي ليس جوهرًا متبلورًا ولكنه صيرورة عاشتها الشخصيات واكتشفتها من خلال التفاعل مع الآخرين ومع نظراتهم والصراع معهم. وتختلف الشخصيات فيما بينها عند استعمالها للغة في أصوات النص الروائي حسب اختلاف سماتها النفسية والاجتماعية والأنساق الثقافية التي تحكمها. ففي كتابة محمود لسيرته الذاتية من زاوية نفس متشظية نلمح المعاناة والوعي بتقوض الأحلام وعالم الاستقرار، وغياب أي إمكان لإنقاذ الوطن والذات من براثن الدمار. إن محمود مثل سائر البشر يخاف الموت ومع ذلك كان مستعدًا أثناء الهبة العرابية أن يلقاه دون تردد ويقول لنفسه "أيامها كان هناك معني"، غير أن زمن ذلك انقضي ولم يعد هناك شيء يموت من أجله. وبعد ذلك سقطت صورة ماض بطولي كاذب رسمه لنفسه ليتباهي به أمام كاترين زوجته الإيرلندية التي تبغض الاستعمار البريطاني. ذلك لأنه كان متعمدًا نسيان لحظة الخزي في التحقيق حينما أدان عرابي وصحبه. لقد كان يريد أن يعتبر نفسه شهيدًا مظلومًا راسمًا صورة الضابط المتمرد المغضوب عليه بسبب ماضيه الوطني أيام الثورة. أعجبه الدور فصدق نفسه ونقل الصورة إلي زوجته. ويحاكم نفسه متسائلاً - انتهي وقت الخداع فما الذي فعله هو بالضبط في الثورة؟ يتضاءل ما فعله حينما يتذكر بطولة الجماهير لنقل الجرحي من شاطيء البحر إلي المستشفي. عاشوا وماتوا في صمت. ويخاطب نفسه قائلاً إصابتك مثل جرح حادثة عابرة في الطريق. وهو وزملاؤه ادعوا في التحقيق أنهم كانوا من الساخطين علي أفعال "البغاة". ويواصل محاكمة لا تنقطع لنفسه في الماضي والحاضر. لم نأت لسكان الواحة إخوانًا بل جئناهم غزاة مستعمرين، فلماذا أغضب مما يفعله الانجليز بنا ولماذا تغضب كاترين مما يفعلونه بأيرلندا. ذلك قانون الأقوي. هل هو الذي اختار بإرادته أن يخون أو يتخلي؟ هل خيانة زميله وصديقه جعلته يتوهم أن العالم خانه وخذله بعد أن شهد ضده فأنكر هو الحقيقة.
أما كاترين فكان موت الأب صدمة لها، هي التي لا تفهم أي معني للموت، ولكن مادام محتمًا فلنفعل شيئًا يبرر حياتنا، فلنترك بصمة علي هذه الأرض قبل أن نغادرها. وسيأتي الموت في موعده دون أن نشتريه، هذه الحياة لكي نحياها فلنحاول أن نجعل لها معني. وقد وجدت المعني في البحث عن إشارات مؤدية إلي مدفن الاسكندر الأكبر دون أن تعرف بالضبط ما الذي تبحث عنه عمليا فهي دون مال أو أيد عاملة. وأسلوبها النسوي في القص لا يتصف باستمرار زمني متماسك أو بالتعميم تستخلصه من تجارب حياتها الجزئية كما يفعل محمود بحياته المهنية ومكانته الاجتماعية.
وهناك في الرواية من يقبلون الحياة كما هي، فالشاويش ابراهيم الذي أقدم علي إنقاذ صبي المعبد حينما جبن محمود يعيش من أجل أن يعول أحفاده بعد أن مات أولاده في وباء الكوليرا. كما أن أهل الواحة شجعان لم يستسلموا مع كثرة قتلاهم حتي نفدت ذخيرتهم، بينهم عداوات ولكنهم يد واحدة علي الأغراب. فلم تكن الفكرة شائعة أنه من الممكن أن يوجد معني لحياة الفرد خاص به مختلف عن معني حيوات أفراد عشيرته. وكان معني الحياة هو أن يفعل الإنسان ما فعله أسلافه وما تتوقعه الأعراف منه. ولكن الآن يوجد من يتشكك في كلمة معني حتي عندما تضاف إلي الحياة نفسها (جيل ديلوز) لأنها تفترض أن أحد الأشياء يمكن أن يمثل أو يقوم مقام شيء آخر. فالأشياء والأفعال هي بصراحة ما هي عليه بدلا من أن تكون علامات ملغزة لشيء آخر أو تتضمن رسائل وآليات محتجبة مدفونة تحت السطوح.
الاسكندر
إن حس الحاضر يؤكد اهتمام الرواية بمسألة الامبراطوريات، وأبرز بناتها الذي أوصي أن يدفن في واحة سيوة إلي جوار أبيه آمون. كما يعتبر حروبه باعتباره إلهًا حروبًا للعدل يبسطه في الكون، حروب الأخيار ضد الأشرار. ولكن إحراق عاصمة الفرس لم يكن عدل إله وإنما انتقام إنسان تسكنه الكراهية. ويكتشف الاسكندر نفسه فيرتاع منها ويتساءل في الرواية كما يتساءل محمود لماذا يفعل الشيء ونقيضه. اسكندر الذي يصنع عالمًا جديدًا علي غير مثال تتحد فيه أجناس البشر ويتكلم لغة واحدة هي اليونانية، أرقي اللغات، لغة الإلياذة وتتزاوج الشعوب فيما بينها وكأن جنسًا واحدًا يعمر الأرض أي اسكندر كأنه النغم المتسق، واسكندر آخر غارق في بحور الدم. كل مقاومة لسيطرته تصير عصيانًا إجراميا ينبغي قتل كل من يقومون به. والاسكندر في نظر نفسه يسلك كما كان يفعل أخيل في الإلياذة، ينسحب إلي خيمته إذا قتل صديقًا قديمًا لأنه عارضه ويأمر بإعلان شارات الحداد. لقد صار طاغية مثل طغاة الشرق، ومثل محمود كان في حاجة إلي الخمر التي تجمع في غيبوبتها شظايا الذات المبعثرة. لقد اكتسحت زيارته لآمون دروس أرسطو عن الوسطية واكتسح لقاؤه بكهنته بقية التجربة الهيلينية عن الديمقراطية فمنهم تعلم أن الخوف لا الحكمة هو أساس الملك، إخافة العامة بالعقاب علي الأرض وفي العالم الآخر لكي يعرفوا الطاعة والاستقامة. كما أن الامبراطوريات كل الامبراطوريات لا تتصرف كما يتصرف ملك مع رعاياه الأحرار، بل كطاغية مع عبيده. ولكن الخوف يفرخ الطاعة ومعها المقاومة والخيانة. إن الرواية ترفع الماضي إلي كثافة الحاضر بسبب تيمات تشبه مع الفارق تيمات معاصرة وتلتحم نغمة الحاضر مع النغمة التاريخية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.