ليس تغيير ما بالأنفس كطريق للتغيير بجديد علي ثقافتنا العربية والإسلامية -الدينية والمدنية علي حد سواء. لكن يبدو أن بنيان الدولة الحديثة بتعقد وظائفها وضخامة مؤسساتها قد أنسانا بالفعل أهمية الفرد وقوته حتي صرنا نتحدث عن الاستضعاف والتمكين كمفاهيم جماعية، رغم أن الاستضعاف يبدأ من قبول الفرد ألا يكون له كرامة، والتمكين هو استعادة الإنسان بالأساس لشعوره بأنه قوي، حينذاك يبدأ التغيير الفعلي الذي أحدثته الثورات الكبري عبر التاريخ بأشكالها وأنواعها. حين كتبت منذ أسبوعين عن نضالات الحياة اليومية وتغيير ثقافة الفرد ليدرك أنه لا يمكن لدولة أو نظام أن يستضعفه إلا حين يقتنع بأنه بالفعل ضعيف، وأن الوعي وتغيير السلوك أول طريق التغيير والنهضة، وصلتني رسائل عديدة تطلب مني أن أكتب عن ذلك الأمر أكثر. والحقيقة هي أن لدينا تراثاً ضخماً من الكتابات عن الثورة وعن الحركات الاجتماعية الضخمة خلفه لنا قرنيان كاملان من خيال التغيير الذي حكمه وجود الدولة القومية، فصرنا نتحدث عن تغيير بحجمها، تغيير الأفيال والأمم والتاريخ بالكلية، وتقوَّت هذه النزعة بوجود تحولات أيديولوجية وغلبة الفكر الاشتراكي قبل وبعد الاستقلال، وهو الفكر الذي يمكن أن نقرأ فيه تصورات ومفاهيم العدالة بمعناها الحديث التي تجدد مركزية قيم العدالة، تلك الضاربة بجذورها في ثقافتنا. بعد عقود طويلة من الولع بالحركة الجماعية في تناسقها الذي يؤدي لتراكم يؤدي لتغيير ضخم، انصرفت العلوم الاجتماعية منذ مطلع السبعينيات للنظر فيما نسميه الحركات الاجتماعية الجديدة، تلك التي تتحرك بزخم أيديولوجي أقل، ونظام هرمي أخف، وتتحين الفرص السياسية من أجل التعبئة حول قضايا بعينها ومصالح محددة، وتوظف الثقافة ورموزها وطقوسها الاجتماعية من أجل تغيير طويل النفس. يسمونها الآن في العلوم السياسية وعلم الاجتماع سياسة الحياة، وفي وصف آخر سياسة الحياة اليومية أو سياسات الشارع، تلك الحركة العضوية الحية التي تتنفس كما يتنفس الفجر، بدلاً من أن تتحول كما تتحول الآلة، فمنطقها منطق الطبيعة وحركتها حركة الموج وأثرها أثر انبلاج الفجر بعد الظلمة. وللأسف مازالت كتابات هذا النوع من الحركة للتغيير ضعيف، في عالمنا العربي الذي تربي علي «المد الثوري» ومعاني الحركات الكبري التي انتهي بها المآل في كف الدولة وسلطتها في ظل نظم شمولية استبدادية مريضة. من سياسة الأفيال عودة لسياسة النمل، إذ نحتاج أن نذكر أنفسنا في أحلك لحظات القمع والاستبداد والبطش والبوليسية التي يمارسها نظام يطنطن بالحديث حول الحريات ثم يتهم خصومه بأنهم ضد التقدم ويضع المدنيين أمام محاكم عسكرية، نحتاج أن نذكر أنفسنا بأن الفرد هو الذي يصنع التغيير، ويحول مسار التاريخ، لذا لم يكن غريباً أن ينصرف الأنبياء إلي تربية الفرد وتحتفي به دوائر التثقيف في التنظيمات الحديثة. استراتيجيات البقاء الاقتصادي التي نجدها في مجال الاقتصاد غير الرسمي والبناء خارج قواعد الدولة، والذي تسميه النظم السياسية المهيمنة العاجزة ب«العشوائيات» رغم أنها هي أكبر ظاهرة عشوائية في التاريخ المعاصر، تلك الاستراتيجيات التي يسعي من خلالها الناس للتغلب علي الفقر وغياب الخدمات والتهميش الاقتصادي بتمكين أنفسهم عملياً والاستمرار في الحياة، تلك الاستراتيجيات تتمدد وتتوغل في المجال الاجتماعي والسياسي حين يرفض الناس القبول بالأمر والواقع ويغيرون نظرتهم للحياة ويقاومون بالأفعال الصغيرة والمبادرات المحدود هيمنة الفيل فينسلُّون من تحته قوافل نمل تخط خطوطاً مغايرة لمساراتها، وتتشابك وتتناغم حركتها تحت قدميه فيعجز عن إحكام قبضته علي مجريات اليومي والمُعاش علي الأرض. الشرطان الأساسيان لهذا هما الأمل والإبداع، فنحن مستضعفون بالفعل حين نفقد الأمل ونسقط صرعي اليأس، ونحن خاضعون حين تهون علينا أنفسنا فنقبل المهانة والذل في الحياة اليومية وفي التفاصيل الصغيرة، ثم نحن نقضي علي مستقبل مجتمعنا حين نعيد إنتاج طرق التفكير فيما سبق بنفس الخيال القديم، في حين أن الواقع المتغير يحتاج عقولاً تبدع بدائل وتتحرك في البنية التحتية للمجتمع في كل يوم حركة مختلفة تربك توقعات آلة التحكم الضخمة التي نسميها الدولة. خيارات التغيير السلمي والمدني من الفعل الجديد إلي الشبكات التي تغذي الوفاء باحتياجات الناس إلي العصيان المدني الذي يراهن علي النفس الطويل والنبض المنتظم ليست خيارات سهلة، لأنها تتضمن استراتيجيات أمل وإبداع، نفوس تأبي الذل وعقول تتحدي الجمود، وهذا - للطرافة- من أصعب شروط التمكين والنهضة الزاد والعتاد من أسهل ما يمكن، لكن العنفوان والاجتهاد هما العملة النادرة بعد عقود من انسحاق الشعوب تحت آلة الترهيب وثقافة الطاعة والخضوع. من هنا لن أيأس من تكرار أن الشباب هم الأمل، لأن نفوسهم أعصي علي التدجين وأحلامهم أكبر من ضيق العقول التي تشبه الزنازين وهممهم أعلي وقلوبهم تملك هذه الطاقة الإيجابية والوعي النضر الطازج الذي فقده الكبار عبر عقود العمر وحسابات الاستقرار والاستمرار بأي ثمن. فلنبذل طاقة في تطوير نضالات الحياة اليومية ونصابر علي الأمل والإبداع، مجددا...وأبداً.