بعد أن طمأنني الأطباء أن مريضي سيتم نقله إلي غرفة الرعاية المركزة بمجرد أن يتم تعقيم الأجهزة، قررت المغادرة. علي الباب فوجئت بأعجب مشهد، أم المريض تحتضن أم المتوفي ويصرخان معاً، واحدة تبكي طفلها الذي رحل والثانية تبكي ابنها الشاب المتأهب للرحيل. انتبه قريب الشاب لخروجي فاندفع تجاهي، همست في أذنه أن المريض سيحل محل المتوفي في السرير والأجهزة، فهمس (الحمد لله ) ثم انتبه إلي صراخ الأمهات وأضاف: ( لا حول ولا قوة إلا بالله، الواحد مش عارف يقول إيه ). قلت له: ( طمن أمه بهدوء ). واتجهت إلي باب المصعد اختبأت وسط الأهالي الواقفين علي الباب. لأن الزيارة ممنوعة في ذلك الموعد ليلاً، اعتاد أهالي المرضي أن يقفوا ويجلسوا ويناموا في المكان الفاصل بين أبواب المصعد وباب القسم الذي يغلق ليلاً، ويقف خلفه رجل أمن، كل فترة يدق أحدهم الباب فيفتح رجل الأمن ويطمئن الطارق علي مريضه، أو يخرج مرافق لأحد المرضي يطمئن الجميع. مشهد الصراخ عادي جداً ومتكرر، يصرخ الأهل بعد أن يصلهم نبأ الوفاة، ويتأملهم الآخرون في صمت ربما يتدخلون للمواساة بكلمة أو كلمتين. لأن (مسيره ييجي الدور )، سيصرخون عندما يأتي دورهم. إلا الست أم محمد الشاب، قررت أن تشارك أم محمد الطفل صراخها بل تتفوق عليها، مما زاد من «برجلتي». المصعد يتأخر في الصعود، فهو لا يصعد تلبية لرغبة النازلين، هو يصعد لتوصيل الصاعدين، والنازلون ينزلون بالصدفة. ولأننا ليلا فعدد الصاعدين قليل، والسلم لا يصلح منفذاً للهرب لأسباب كثيرة. فجأة انقطع الصراخ وساد صمت، ثم اندفعت أم محمد الشاب تجاهي محاولة تقبيل يدي، حدث ما كنت أتوقعه. نهرتها بعنف مبالغ فيه ( يا ست إنتي مجنونة، اعقلي شويه، وادعي له عشان ربنا ينجيه ) وبينما كنت انحشر في المصعد وصلني صراخ أم الطفل ( شالوا الأجهزة من عليك يامحمد؟، شالوا الأجهزة ليه يا ضنايا؟، شالوا الأجهزة وموتوك يا بني؟!) عندما خرجت من باب قصر العيني الخلفي المجاور لباب الاستقبال، استنشقت الهواء القادم من اتجاه النيل بعمق علي أمل أن أهدأ قليلاً. عند نهاية الشارع بدأت أستعيد هدوئي تدريجياً وأحاول تذكر كلمات مقدمة مسلسل حديث الصباح والمساء، مين فينا جاي مرساها مين رايح لحظة ميلاد الفرح كان في حبيب رايح يابو الروايح يا نرجس ما تجس وتر القدر تلقي حكايات البشر فيها عبير العبر صابح باقي الأغنية رائعة وتستحق أن تبحثوا عنها - الكلمات ل«فؤاد حجاج»