في عام 2005 .. وعندما إنهالت الضغوط الدولية على نظام مبارك للدفع نحو الإصلاحات الديمقراطية .. ترك النظام للإخوان المسلمين فرصة الفوز في المرحلة الأولى من الإنتخابات البرلمانية ليثير ذعر المجتمع الدولي ويشعرهم بأن مصر سوف تقع في أيدي الإسلاميين في وقت كان المزاج العام يعيش أجواء ما بعد الحادي عشر من سبتمبر ويقرن كل ما هو إسلامي بالتطرف والإرهاب في عام 2011 لم يتغير نظام مبارك كثيرا .. فترك المرحلة الأولى من الإنتخابات لاكتساح القوى الإسلامية ليوجه نفس الرسالة ليس إلى المجتمع الدولي ولكن إلى القوى المدنية داخل المجتمع المصري خصوصا تلك القوى الثورية التي مازالت تناصب نظام مبارك العداء وتضغط في سبيل تسليم المجلس العسكري للسلطة والتي أصابها الإرتباك والإنشقاق والهلع مع ظهور نتائج المرحلة الأولى من الإنتخابات بشكل قد يجعلها أكثر ليونة ومهادنة مع المجلس العسكري في المراحل القادمة خوفا من بعبع الإسلاميين. عملية التصويت خلت تقريبا من الإتهامات بالتزوير المباشر .. ورغم ذلك فقد خلت أيضا من كثير من معايير النزاهة .. هناك إنتهاكات عديدة حدثت .. وهناك رخاوة إجرائية في التعامل مع المخالفات مثل الدعاية أمام اللجان وتدخل المندوبين لتوجيه الناخبين وشراء الأصوات وإستخدام الدين في الدعاية الإنتخابية ..والتساهل مع المنتقبات فيما يخص التحقق من الهوية الأمر الذي جعل منتقبة واحدة تصوت 15 مرة ب15 بطاقة مختلفة في الأقصر وكلها مخالفات تستطيع من الناحية القانونية أن تشطب المرشحين الذين يقومون بها (وهذا طبعا لم يحدث) .. وهناك الفيلم الهندي الخاص بأصوات المصريين في الخارج والذين قاموا بالتصويت بعيدا جدا عن أي إجراءات تضمن النزاهة أو عدم العبث في توجهات الأصوات. كان من المنطقي أن يفوز التيار الإسلامي الأكثر تنظيما والأوسع تحالفا مع العديد من القوى السياسية .. فالعدالة والحرية يقود تحالف واسع النطاق يضم حزب الكرامة الناصري وغد الثورة الليبرالي .. كان من المنطقي أن يفوز ولكن من غير المنطقي أن يكتسح .. ويبدو أن هناك من أراد للفوز أن يبدو كاسحا وشاملا ليشكل فزاعة للقوى المدنية والأقباط وشباب الثورة المرابط في ميدان التحرير أهم النتائج الحقيقية للمرحلة الأولى هي حالة الضعف الكامل التي ظهرت عليها مجموعات الفلول وأحزابهم حيث ظهر واضحا أن القوى التي يحاول الإعلام الرسمي والمجلس العسكري التعامل معها وكأنها المعادل الموضوعي لميدان التحرير مثل جماعة أنا آسف ياريس وإئتلاف روكسي والعباسية هي مجرد جماعات ورقية غير موجودة على الإطلاق في الشارع المصري أو في صناديق الإنتخابات المرحلة الثانية من الإنتخابات مرشحة لتكون أكثر عنفا ودموية بالشكل الذي يقضي تماما على الخالة سلمية والخالة نزيهة اللتين تزعمتا شعارات المرحلة السابقة ..وذلك للأسباب التالية : أولا :أن السبب الحقيقي للهدوء الأمني الذي صاحب المرحلة الأولى كان إرادة سياسية للقوى الأمنية الرسمية التي تعمدت إحاطة الشهور العشرة الماضية بهالة من الإنفلات الأمني .. هذه القوى التي بدا خلال المرحلة الأولى أنها تمسك ب"صنبور" الإنفلات الأمني تستطيع أن تفتحه أو تغلقه كما تشاء يبدو أنها شعرت بحرج بالغ لأن الأمان المبالغ فيه في يومي الإنتخابات بدلا من أن يجعل الناس تشيد بأجهزة الأمن والمجلس العسكري جعلهم يتساءلون ومعهم حق.. إذا كان فرض الأمن ممكنا بهذه الطريقة بمجرد توافر الإرادة السياسية فما الذي جعله منفلتا قبل ذلك؟!!! .. وعلى ذلك فربما يشعر من يمسك "صنبور " الإنفلات الأمني أن عليه أن يواربه بدلا من أن يغلقه تماما حتى لا تصبح الحكاية "مفقوسة قوي" ثانيا: الحشد الذي سيحدث في المرحلة الثانية سوف يكون أكبر وأكثر تنظيما من القوى التي خسرت المرحلة الأولى .. سوف يكون صراعا على الوجود بالنسبة للفلول الذين يمتلكون سلاح البلطجة المنظمة .. وسوف يعود للمشهد العديد من القوى الثورية التي قاطعت المرحلة الأولى (أو على الأقل شاركت فيها بدون تركيز) تأثرا بأحداث التحرير ومحمد محمود وعملية التغيير الوزاري ثالثا : من مصلحة كل الأطراف حاليا (بما فيهم التيار الإسلامي) أن يتم لجم جماح حصانهم الإنتخابي الجامح .. فالأغلبية البرلمانية المطلقة لهم في البرلمان ستجعلهم أمام مسؤولية أكبر من طاقتهم ومن صلاحيات البرلمان .. سوف تجعلهم مثلا مطالبين أمام قوى الثورة وأهالي الشهداء بإقرار العدالة فيما يتعلق بقتل المتظاهرين ومحاكمة الفاسدين وتطهير أجهزة الدولة من أيدي مبارك .. كما ستجعلهم في موقف الصدام مع المجلس العسكري وتنهي شهر العسل الطويل بينهم عندما يأتي الحديث لموضوع تسليم السلطة ووضع العسكر في الدستور الجديد ونصوص وثيقة السلمي التي نامت مؤقتا ولم تمت .. ومن الأفضل للإسلاميين أن يظهر أنهم تراجعوا في المرحلتين الثانية والثالثة بسبب تجاوزات حدثت ضدهم وليس لأسباب تصويتية بحتة .. وتستطيع سحب الدخان وأخبار الصراعات الدامية أن تشكل مادة إعلامية تساعدهم على ذلك .. فيظلوا فائزين (بغير إكتساح) .. عن نفسي وكليبرالي لا أشعر بالهلع من نتائج المرحلة الأولى من الإنتخابات ليس فقط لأنني أحترم نتائج الصندوق مهما كانت وليس فقط لانني أحسن الظن بالتيار الإسلامي وأعتبره شريكا رئيسيا في الثورة ومن حقه أن يكون ممثلا وبقوة في أي برلمان وليس فقط لأنني أدرك أن المتطرفين في التيار الإسلامي ليسوا سوى فقاعة إعلامية وأمنية لا تعبر عن الجوهر الحقيقي للتيار .. ولكن أيضا لأنني أدرك أنه برلمان منزوع الصلاحيات ومطعون الإجراءات سوف يقضي شهورا طويلة بعد تشكيله يخوض معارك قضائية طاحنة حول إجراءات كثيرة شابها العوار سواء في فتح باب الترشيح أو التصويت أو تصويت المصريين في الخارج .. أنا لا أجد في هذا البرلمان سوى رسالة تخويف يقدمها نظام مبارك الذي لم يسقط بعد محذرا من أننا شعب لا يصلح للديمقراطية وأن نار حكم العسكر أفضل من جنة صناديق الإنتخابات التي تأتي بقطاع الأيدي وجماعات التكفير والهجرة.. وهي رسالة مرفوضة جملة وتفصيلا فالنواة الصلبة الشابة لقوى المجتمع المدني التي أسقطت مبارك تستطيع أن تحافظ على الحد المقبول من الحريات المدنية داخل المجتمع المصري حتى تحت حكم الإسلاميين.