بدلاً من أن أستعرض الواقع الغنائي القبيح لدينا الآن، سألقي الضوء عليه من زاوية أخري ربما كانت أوضح، تاركاً الحكم بعد المقارنة لضميرك. وعلي مدي سنوات العشق والثورة والتأمل التي عشتها أدرس في الخارج، اعتدت أن أبذل قصاري الجهد في مطاردة الأغاني أينما وجدت. كنت كالتلميذ المراهق الذي يقفز طوال اليوم بين الأزهار في الحدائق، ليجمع آخر النهار داخل كراريس المدرسة أكبر عدد ممكن من الفراشات الرائعة الألوان. كنت أدرك - علي نحو ما- أن الأغنية هي الشكل الفني الأكثر تأثيراً في هذا العالم، وأنه ما من قوة في الوجود - علي مدي التاريخ إلي الآن- كان في مقدورها، مهما بلغت من البطش أو ظلام الروح أو تحجر العقل أو القدرة علي الترويع، أن تمنع الإنسان من أن يعزف بأحباله الصوتية لحناً يعبر عن أحزانه أو أشواقه إلي العدل أو الحرية، أو يجسد عذاباته لحظة الإحساس بالعجز في مواجهة بعاد الأحبة أو فراق الراحلين الذين أدمنهم القلب. المطربة الإسبانية ماري تريني تستهل إحدي أغنياتها بهذه الكلمات: «من منا في لحظة ما من حياته، لم يحلم، نائماً أو مستيقظاً، بأنه يعيش مع شخص ما تجربة يخجل من البوح بتفاصيلها حتي إلي أقرب الناس؟ ومع هذا، يظل طوال العمر يتمني لو حدثت في الواقع. «أنا في الحقيقة أيضاً لا أستطيع هناك أن أتجاهل أغنية باتشي أنديون عن المدرس: «أسقف الأبرشية يقسم أنه ملحد، وسكرتير المجلس المحلي- الذي لم يكمل تعليمه ليتفرغ إلي السياسة- يراه فوضوياً. أما ضابط المباحث المخضرم، فيؤكد- فيما هو يلعب الورق بالليل مع المحتجزين الأثرياء- أنه شيوعي». وعلي المقابل، فإن فيكتور مانويل يتذكر جده الذي كان واحداً من عمال المناجم قائلاً: «من طول ما تعود علي الحياة تحت الأرض، أصبح يشعر بالغربة حتي معنا علي مائدة العشاء. وعلي الرغم من كل تلك السنوات التي قضاها هناك في القاع مع الفحم، ابيضت لحيته كالآخرين». تلك هي بعض نماذج الغناء الجميل في خزائن ذاكرتي السرية التي لا أفتحها إلا علي انفراد. يكفي أن نتصور كيف يمكن أن يكون الوضع، لو لم يكتشف الإنسان هذه القدرة السحرية في حنجرته. الحياة بدون غناء، كانت ستصبح كأفلام السينما الصامتة.