من أشهر الحجج التي تُشهَر في وجه الإسلاميين المنخرطين في العمل السياسي حجةٌ مفادها: إنهم إذا كانوا يعبرون عن الأغلبية، وسيأتون إلى الحكم باختيار الأغلبية، فإن هتلر النازي، وموسوليني الفاشي قفزا إلى سدة الحكم بواسطة اختيار الأغلبية كذلك، وعبر انتخاباتٍ حرة ونزيهة أيضًا، ثم انقلبوا على الديمقراطية نفسها، أي استعملوا آلياتها للوصول إلى الحكم، ثم انقضوا عليها وفتكوا بها. لن أحاول الردَّ على أصحاب هذه المقولة ببيان الظلم والإجحاف في مقارنة الإسلاميين بالنازيين والفاشيين، ووضعهم جميعًا في سلةٍ واحدة، بل سأسايرهم في حجتهم، التي هي للحقِّ حجة قوية متينة، لكنها لا تطعن في الإسلاميين بقدر ما تطعن في النظام الديمقراطي الغربي على وجه العموم، كما أن أبرز ما فيها أنه لا يمكن اتهام الألمان أو الإيطاليين في ذاك الزمن بالجهل وقلة الوعي، أو أنهم كانوا غير مؤهلين للديمقراطية والاختيار الحر؛ إذ كانوا بمقاييس عصرهم في مقدمة أمم أوربا تعليمًا وثقافةً وتحضرًا، بل يفوقون في ذلك نظراءهم الموجودين حاليًا. ومع هذا فلابد أن نتبع هذه الحجة بسؤالٍ ضروري: ما الذي كان يمكن فعله لمنع الشعبين الألماني والإيطالي من الدفع بنازييهم وفاشييهم إلى الحكم؟ وكيف كان يمكن لمناوئيهم أن يفرضوا عليهم اختيارًا آخر غير ما تريده الأغلبية، سوى اللجوء إلى صراعٍ أهليٍّ ستتغلب فيه الأغلبية بالطبع، أو تدخلٍ خارجيٍّ لصالح الأقلية، وهو ما لم يكن ممكنًا في حقيقة الأمر. إن الإجابة السهلة عن هذا السؤال هو أنه لابد من وضع ضوابط تضمن عدم الانقضاض على الديمقراطية والمساس بالأقلية، ولكنها إجابة قاصرة، إذ يظل السؤال متعلقًا بكيفية وضع مثل هذه الضوابط إذا كانت الأغلبية هي التي تضع وتقرر، وحتى إن وُضعت لها ضوابط تحكمها في مرحلةٍ ما، أو لحظةٍ تاريخيةٍ معينة؛ فكيف نضمن ألا تنقض عليها الأغلبية فتغيرها أيضًا؟ ومن الذي سيجعل من تلك الضوابط إحدى الثوابت التي لا تقبل التغيير والتبديل والتعديل؟ وهناك إجابة أخرى لكنها تبدو مخيفة، وهو النظر في المآلات والعواقب التي نجمت عن وصول النازية والفاشية إلى الحكم بآلياتٍ ديمقراطية، وكيف صارت التجربة المريرة التي تجرعتها تلك الأمم من جراء اختياراتها هذه دافعًا لها وحافزًا إلى تصحيح مسارها، وتقويم أفكارها، وتحديد أهدافها، ووضع ضوابط لتنظيم مجتمعاتها نابعةٍ من نتائج تلك التجربة ومحصلاتها، ما أدى بها إلى النهوض سريعًا من كبوتها، والعودة مجددًا إلى الطريق السليم، كما تفعل سائر الأمم القوية القادرة. إن القضية ليست في صحة هذه المقولة أو فسادها، لكنها الإشكالية التي تقبع وراءها، التي تبدو مختصةً بعالمنا العربي والإسلامي ملتصقةً به، حيث إنه من الصعوبة بمكان أن نجد نموذجًا ديقراطيًّا ناجحًا في عالمنا هذا من أقصاه إلى أقصاه، وحتى النماذج التي اقتربت من الديمقراطية شيئًا ما، كنموذجي تركيا وماليزيا على سبيل المثال، هي ليست إسلاميةً في جوهرها بل علمانية، وهي الحقيقة التي صرَّح بها رجب طيب أردوجان في زيارته إلى مصر فكان صادقًا معنا ومع نفسه، لكنه مع هذا أزعجنا وضايقنا، لأن الحقيقة غالبًا ما تكون مرةً كريهة المذاق. إن إشكالية العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، وبين نموذج الدولة في الإسلام ونموذج الدولة القومية أو المدنية هي إشكالية صعبة، ولأنها صعبة فقد اخترنا منذ نشأة نظامنا السياسي الحديث (النوم) عليها، أي تجاهلها والتغافل عنها كأنها ليست موجودة، وهي مع ذلك موجودة مؤثرة، تقفز في وجوهنا في اللحظات الفارقة والمنعطفات التاريخية الحادة، فلا نقابلها بحسمٍ وحزم، بل نجتهد في قمعها أو إخفاءها وحجبها، ثم النوم عليها مرة أخرى، مما صار أشبه بالاستغرق في النوم على سريرٍ من الألغام الموقوتة. ولنأخذ مصر مثالاً على ذلك، ونظامها السياسي (الحديث) الذي خطا خطواته الأولى في عهد إسماعيل، حين تأسس مجلس شورى النواب سنة 1866، ثم أتبعته التجارب المختلفة للمجالس النيابية وأنظمتها في العهدين الملكي والجمهوري. ويمكننا القول بثقةٍ بأن جذور الإشكال تمتد إلى تلك البدايات الأولى، وليست وليدة اللحظة ولا المرحلة، أي بدايات استقلال مصر عن الدولة العثمانية، والمشروع التحديثيُّ الذي بدأه محمد علي واستكمله خلفاؤه سعيًا لبناء دولةٍ بل قوةٍ إقليميةٍ حديثة تطاول دولة العثمانيين وسطوتها على الشرق، وكان لابد لهذا المشروع من نظامٍ سياسيٍّ حداثيٍّ يناسب ظروف العصر ومقتضيات التطور، فكان أن نقلت النخبة النافذة في ذلك الوقت نموذج الدولة القومية أو المدنية الغربية بحذافيره وطبقته في بلادنا، وهي النخبة التي كانت في غالب الأحيان غربية التعليم والثقافة والفكر والتطلعات، وذلك برغم الاختلافات العميقة التي كانت موجودةً ولا تزال بين بنية المجتمع المصري وأسسه، وتلك الكائنة في أوربا. ولست هنا بصدد الحكم على هذا النموذج إيجابًا أو سلبًا، لأن جوهر القضية يتمثل في أن الغرب الأوربيَّ قد أنتج نظامًا سياسيًّا مستمدًّا من خلفياته الثقافية والفكرية، وتركيباته الاجتماعية، وتكويناته العرقية والمذهبية، وتجاربه التاريخية، وهو نموذج الدولة القومية أو المدنية أو الحديثة، على تنوعٍ في المصطلحات التي تدلُّ على معانٍ متقاربة، بالإضافة إلى النظام الديمقراطي الذي ينظم العلاقة بين الشعب والسلطة وفق مفاهيم معينة، والذي هو مستمدٌّ أيضًا من العناصر التي أشرت إليها، بينما افتقدنا نحن تلك الأعماق والأبعاد كلَّها، ولم نلتفت إلى اختلافاتٍ وخصوصياتٍ كثيرة قد تدعونا إلى وضع صيغةٍ مغايرة لنظام سياسي يناسبنا ويختص بنا. وجرت كثيرٌ من المحاولات منذ ذلك الحين، على المستويات الأكاديمية والفكرية، للتوفيق بين التصورات الإسلامية للدولة ونظيراتها الغربية، وبين نظام الحكم في الإسلام والديمقراطية كمنهجٍ وفلسفة، وذلك بإيجاد عناصر في هذا تتماشى مع ذاك وبالعكس، ولكنها تلك المحاولات مع كثرتها تبدو أشبه بمن حاول إثبات وجود علاقةٍ ما بين الكرة الأرضية وحبة البطيخ، لمجرد أن كليهما مستدير. إنني لا أشك في أن تلك النخبة رأت في استنساخها للنظم الغربية سبيلاً إلى النهضة والازدهار، كما لا أشك في أنها ظنت أن المفاهيم والتصورات الإسلامية للدولة ونظمها وتشريعاتها قد صارت شيئًا من الماضي، وأنها في طريقها هي والمعتقدين فيها إلى زوال، وأنه بهذا سينتفي الإشكال من الأساس، لكن هذا لم يحدث، بل برزت حركة إحياء فكري إسلامي واسعة النطاق على يد محمد عبده ومحمد رشيد رضا وأمثالهما، تطورت إلى كيان سياسي كبير متمثلٍ في جماعة الإخوان المسلمين، وجماعاتٍ أخرى كالجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة وغيرهما، ثم كانت موجة ثانية أكبر وأوسع في سبعينيات القرن المنصرم وما تلاها، وهو ما عُرف بالصحوة الإسلامية. وكان لابد للإشكال غير المحسوم من أن يؤدي إلى صراعٍ واصطدام، وكان الأول عقب ثورة يوليو، وهو صدام بين مشروعٍ استُنبت في بيئةٍ غير بيئته، لكنه صار بمرور الوقت هو شكل الدولة وصورتها وإن اختلفت الأنظمة الحاكمة، ومشروعٍ آخر يحاول الإطاحة بالأوَّل وإزاحته بوسائل غير سياسية تارةً، وتارةً أخرى بأن يُدخل نفسه من باب الدولة ومؤسساتها وأنظمتها، مع أن أصوله لا تتفق مع هذا كله، كما أنه يفشل على طول الخط في نيل ثقة أصحاب المشروع الأول فيما يتعلق بحقيقة اعتقاده تجاه الدولة القومية-المدنية، وتجاه الديمقراطية وفلسفتها وقيمها، وليس مجرد آلياتها ووسائلها. وكان الصراع ثم قمع أحد المشروعين للآخر هو الحل الأوحد لهذا الإشكال الذي نبدو غير قادرين على التعامل مع أصوله وجذوره. واستمرَّ ذلك النهج إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير، وطفا الإشكال مرةً أخرى إلى السطح، وليس من جديدٍ يدل على أننا قررنا التعامل بجدية مع تلك القضية. إنه ليس من الأخلاقي أن تُستعمل آليات الديمقراطية ووسائلها ممن لا يعتقدونها للتوصل إلى هدفٍ ما، سواءٌ انقضوا عليها بعد ذلك أو لم ينقضوا، لكنه ليس من الأخلاقي أيضًا أن يحاول أحدٌ إجبار أحدٍ على الإيمان بالدولة القومية والديمقراطية الغربية كنظامٍ سياسي أمثل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. بل إن تلك الآليات والوسائل نفسها قد لا تتفق معنا في كثيرٍ من الأحيان؛ فتشويه الخصوم السياسيين وإبراز معايبهم ونشر فضائحهم هي من الممارسات المقبولة في العمل الديمقراطي حسب النموذج الغربي، بل من لوازمه التي لا تفارقه، وليس هذا مقبولاً عندنا بحالٍ من الأحوال. ومن الطريف أن أيَّ نقدٍ من هذا القبيل للديمقراطية وفلسفتها قد صار عند بعض مفكرينا وكُتابنا شيئًا يشبه الكفر والزندقة، وهم الذين يصدِّعون رؤوسنا صباح مساء برفض دعاوى التكفير والإنكار على أصحابها. ولكن للحق فإني أعذرهم في هلعهم هذا، عندما يطرق أسماعهم أي طعنٍ فيها، لأنهم يرون أن البديل الذي يريده الناقد والطاعن هو الديكتاتورية والاستبداد المطلق، كما أنني أشاركهم في شيءٍ من هذا الهلع، حيث إننا لا نبدو قادرين على صياغة نظامٍ سياسي نضعه بأنفسنا بما يلائمنا ويناسبنا، فلو سقط هذا سقط كل شيء، وصرنا لا محالة إلى طغيان واستبداد، أو فوضى عارمة. ومن المفارقات أيضًا أن كثيرًا من الإسلاميين قد لا يدركون تناقض أصولهم أو اختلافها مع التصور الغربي للدولة ونظام الحكم، وقد يكونون أقسى وأشدَّ على من نبَّههم على هذا الاختلاف أو التناقض من العلمانيين أنفسهم، وربما اتهموه بالجهل وعدم الفهم، وافتقاد الحكمة والنضج، تفضيلاً منهم لاستمرار النوم على الإشكاليات بدلاً من مواجهتها وحسمها وإن لم تعجبهم النتائج أو ترضي طموحاتهم، أو أخرجتهم من المشهد السياسي بالكلية، أو أزعجت غيرهم وأثارت استياءهم، أو أرضتهم ووافقت أهواءهم، لأنه من الأفضل أن نكون صرحاء صادقين، من أن نكون حكماء ناضجين.