لا أعلم متي عشقت الست، ولا أعلم متي صرت ألقبها بالست، لكني أعرف جيدًا أنني كنت أمل وأمتعض من عرض أي أغنية لها علي التليفزيون، خصوصًا أننا لم نكن نملك الخيار.. إما القناة الأولي أو الثانية، لكني أتذكر فقط الآن أنني أحبها وأحب صوتها وإحساسها وتمكنها ومازلت أذوب من سحر تنهيدتها، ودلالها المهيب وتمايلها المتقن، وتألق قفزات صوتها بين المقامات والمشاعر.. عفوا لن أصرح بأكثر من ذلك، فليس مسموحًا لي بالكلام عن الست في هذه المساحة.. هذه المساحة مخصصة فقط لمن هم تحت سن الثلاثين، وأنا تعديت هذه السن! سخر أبناء هذا العصر من كل ما كنا نعتبره من التابوهات .. حطموا كل الرموز والمقدسات، أو ما كنا نتعامل معها علي أنها مقدسات.. وجدنا من يسخرون من أهم نجوم الفن في مصر في إعلانات المياه الغازية، وفوجئنا بمن يستهينون بتراث السينما المصرية الذي حفظنا تفاصيله عن ظهر قلب في إعلانات فضائيات الأفلام.. في هذا العصر ووسط هذا الجيل الذي سخر من كل ما حوله، حتي سخر من نفسه، قررنا أن نعرف رأي الشباب صاحب براءة اختراع مفردات مثل: «آخر حاجة.. فحت.. جامد.. نفض.. إحلق.. فكني.. سيبك.. سبوبة.. هرتلة».. في كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي أم كلثوم.. بالتأكيد لا يحبها الكثيرون منهم ، وبالتأكيد لا يعرف بعضهم عنها سوي كلمات: «الشاي الشاي الشاي.. أوصف لك يا حبيبي الشاي»، والتي ابتذلوا بها كلمات الأغنية الأصلية دون أدني تأنيب ضمير، فقضوا علي معانيها بسخريتهم المعهودة من كل ما حولهم، لكن الأجمل أن من بينهم من حمل لهذه العظيمة تقديرًا وإجلالاً واحترامًا لا يمكن فهمه في إطار منظومة قيمهم المرتبكة.. عندما تحدثت معهم ليكتبوا رأيهم في سيدة الغناء العربي وسيدتي، تعجب أغلبهم من غرابة الطلب، بل وقال لي أكثرهم إنهم يكرهونها تماما، وتخيلت أنهم سيكتبون عرائض تحمل سبًا وقذفًا صريحًا لهذه العظيمة، لكن الغريب أنهم عندما كتبوا عنها، وعن توتر علاقتهم بها، كانوا مؤمنين ومنبهرين بعظمتها، فما كتبوه من كلمات يستنكرون فيها بقاءها حتي هذه اللحظة، عبر عن عظمة السيدة التي مازالت محتفظة بعبق حضورها وسطوته، كما عبرت كتاباتهم أيضا عن عجزهم عن إنكار أهميتها.. أعلن بعضهم عن كرهه لها، لكنهم أبدا لم يفكروا في الاستهانة أو السخرية من قدرتها علي البقاء في وجداننا ووجدان بعض من أصدقائهم وأبناء جيلهم، والجيل الذي يسبق من يسبقهم.. الجيل الذي سخر من كل شيء.. هذا الجيل العجول.. لا يقدر علي السخرية من أم كلثوم.. لكنه فقط يقدر علي إعلان حبه أو كرهه بأدب جم.. وهذا مشروع جدا، وأعتقد أنه بعد 35 عامًا أخري، سأسأل ابني - إذا كان لينا عمر- نفس السؤال: إيه رأيك في أم كلثوم؟ أم كلثوم.. كوكب الشرق.. سيدة الغناء العربي.. مازلت باقية بعد 35 عاما من رحيلك.. إنك لمتمكنة.. ولو انزعج البعض من حضورك الطاغي، فاعذريهم لأنهم مندهشون من امتداد تأثيرك وجبروت استمرارك، فجيلهم لا يقدر علي الولاء لفنان أكثر من ثلاثة أيام، وبعدها يبدأ التعلق بآخر.. لذلك لم نلمهم، ولن نلومهم علي مشاعرهم تجاهك، فإنهم صادقون.