كيف أكتب عن رأس على جثمان , كانت مبططة , كالفطيرة بعد دهسها من مدرعة للجيش ؟ بعد وقت قليل والكل يصيح ويتدافع ليلتقط أية صور - فوجئت بأنى من ضمن هؤلاء الكل كأننا وحوش نتجمع على ضحية - بعد وقت قليل بدأ حبل الدم من الرأس يسيل على الرصيف. يحاول الناس تقديمى , دون معرفة إلى رجل يصرخ وهو يهشنا بعيداً عن الشهيد . أقول مهنتى ليتيح لى فرصة الاقتراب وهو ليس قريب الشهيد , لكنه ينشغل عن بقية المواطنين الذين يصورون وأحدهم يحمل كاميرا كبيرة متخصصة , يبدو مصوراً محترفاً . أنجح فى التقاط صورة أكررها وأبتعد عن الجثة التى غطوها بعلم مصر من يد أحدهم ثم بكليم رخيص مترب. كنت تأخرت عن وقفتى التضامنية بماسبيرو بحكم اجتماع فى المجلس الأعلى للثقافة استأذنت منه مبكرة لأستطيع المشاركة كماكنا اتفقنا , بالملابس السوداء ووقفة صامتة ونحن نحمل الشموع . أنظرُ الآن إلى شمعتى الصغيرة البيضاء التى كانت فى بيتنا وأخذتها فى حقيبتى لماسبيرو ولم نشعلها أبداً. التاكسى من دار الأوبرا إلى منطقة ماسبيرو يتعلل بالكورنيش المتوقف . كان مزدحماً بالفعل " شوفى " . كان يرغب فى أن يسلك طريق كوبرى 15 مايو وبدأ . قلت " حاتأخر " . طلبت أن ينزلنى آخر كوبرى قصر النيل ونزلت مشياً على الكورنيش واتصلت بالأصدقاء الذين كانوا طلبوا أن أهاتفهم لدى وصولى. "ما تجيش يا غادة ما تجيش ..بيضربوا رصاص حى " . كانوا يصرخون ولم أسمعهم جيداً أول الأمر من صخب السيارات العابرة والموسيقى التى تصم أذنيك المنبعثة من المراكب المجاورة على الكورنيش . تشككت وقلت لصديقى المحامى جون فكرى داخل منطقة التظاهر " رصاص حى , مش معقول يمكن إشاعة يا جون " . كنت أقترب من أقرب منطقة لماسبيرو على الرصيف المقابل , وقبل رمسيس هيلتون بقليل , رأيت بعض الناس بدأوا يجرون فى اتجاهى خارجين ومنهم نساء يحملن صلباناً خشبية كبيرة بأيديهن ورأيت مدرعة تجرى أسفل كوبرى أكتوبر بحركات هيستيرية متلولبة عنيفة ومدفعها يتحرك عشوائياً بدون تصويب على أحد فى حركة دائرية وذلك بعيداً نوعاً ما عن المنطقة الفعلية لمتظاهرى ماسبيرو. أصوات الرصاص استمرت وبعض الناس يجرون ناحيتى وشبكة المحمول سقطت فلم أعد أستطيع الاتصال أو الاطمئنان على أصدقائى . حكيت للناس حولى وبعض الخارجين من أمام ماسبيرو . عرض بعض من لا أعرفهم توصيلى للبيت أو إدخالى لأصدقائى وتدخل البعض بأن ينهينى عن الاقتراب أكثر من المكان . كان صوت الرصاص الذى لم أسمعه منذ 28 و29 يناير متقطعاًَ وعربات الإسعاف تمرق وتظهر عربات جيش أو مدرعات شرطة عسكرية , لا أعرف , فيبدأ إطلاق النار ونجرى على الكورنيش . رأيت حريقاً فى كورنيش ماسبيرو على مسافة قريبة وفى الوقت الذى كان رجلاً لا أعرفه بجوارى اتضح لاحقاً أنه عمر النيال الزميل بالوفد يقول مع بعض الأقباط أن ما يتم استخدامه على المتظاهرين فى ماسبيرو لا يمكن يكون رصاصاً حياً , رأينا بعض المواطنين يتدافعون لإيقاف تاكسى بضراوة ليستقلوه ورأينا بجانبنا البعض يهرولون وهم يحملون جثة وسمعنا صراخاً مختلطاً . وضعوا الجثة على الرصيف الذى كنا عليه ولما اقتربتُ ظل أكثر من واحد يدفعنى وغيرى بعيداً بعنف وزعيق ليمنعونا من التصوير . كانت ثيابهم ممزقة ودمه على ملابسهم , وكنت متشبثة بأن هذا التصوير حقه . طلبى لإزالة الغطاء من على وجهه استفزت الرجل الذى كان يدفعنى ويصرخ فى الجميع وأقنعه البعض بكشف الوجه لحظتين . حين ذكرت له مهنتى استشاط أكثر وركز على استبعادى وهو يصرخ مصمماً " يلعن أبوكم". لكنى التقطت الصورة أكثر من مرة . ظللنا نجرى كلما يأتى نحونا الناس بتدافع الكتل لنصبح جزءًا منها ثم نعود لأننا نحتاج أن نعرف ما يحدث . سمعت شتائم ضد المؤسسة العسكرية , وحكى لى شاب مراهق أن برنامج " العاشرة مساء " جاء للتصوير ولم يكونوا يتحملون المناظر . بعض الخارجين من منطقة التظاهر أكدوا أن المدرعات قامت بدهس الكثيرين عمداً واختلفوا حول الرقم , فهناك من قال أن الضحايا خمسة أشخاص وهناك من قال لاحقاً أنه رأى عشرة قتلى أمامه وهناك من قال أنهم ثمانية . كان الناس يلقون زجاجات فارغة كلما أمكنهم على سيارات المطافئ العديدة ورأيت شاباً أو إثنين يجرون , كل على حدة خلف مدرعات عسكرية يضربونها بالشوم وبعد أن ذكر أحد الشباب استخدام القوات العسكرية للغاز المسيل للدموع , بدأت أتنبه لحرقة فى عينى وألاحظ عيون الناس ، كل منهم يمسك بمنديل ويدعك عينيه واستمر ذلك الإحساس حتى نهاية كوبرى قصر النيل وبداية دار الأوبرا المصرية التى كانت شهدت أكثر مواقع الضرب بالغاز المسيل للدموع فى 28 يناير. أما صديقى الذى خرج متأخراً من أمام ماسبيرو فذكر لى شيئاً قال أنه مهم وأتفق معه . قال : " عساكر الأمن المركزى قدام الجنينة الصغيرة التابعة لفندق رمسيس هيلتون بادرونا بالشتايم واحنا داخلين وواحد منهم قال : خشوا خشوا يا ولاد ال ..... . حتنضربوا لغاية ما تتبهدلوا جوه وتموتوا " ، وقال أن الشباب معه ردوا عليه : " إحنا مستعدين نموت عشان كنيستنا وبلدنا اللى أنتو بعتوها " . وأكد لى أن بداية إطلاق النار لم تكن رداً على أى عنف من المتظاهرين. حكى لى جون فكرى أنه قام بتصوير ما لا يقل عن 45 جثة مرشحة للزيادة وخاصة مع ارتفاع أعداد المصابين الذين , بحسب علمه شخصياً , توفى إثنان منهم . كما وصف عدم وجود دم فى المستشفيات لنقل الدم للجرحى الذين تفاوتت إصاباتهم وتهتكت أرجل وأيدى بعضهم بالدهس من المدرعات , وكيف أن أطباء الامتياز غير العارفين بالتعامل مع حالات حرجة من نوع الإصابات التى وردت للمستشفيات التى قبلت باستقبال المصابين والذين بلغ عددهم فى تقديراته وبعض أصدقائه ومن يقومون بحصر الجرحى , مئة وعشرين حالة , هؤلاء الأطباء هم من كانوا موجودين . وقد رفضت مستشفى الهلال عكس كل تصريحات وزير الصحة عن التزام المستشفيات من فترة استقبال أية طوارئ , رفضت استقبال المصابين الذين كانت أغلب إصاباتهم بالرصاص الحى إما فى الصدر أو فى الرأس كما حكى صديقى الذى كان التعب قد نال منه وهو يحكى : " عند كوبرى شبرا اتحدف علينا طوب وكان فيه ضرب نار من بلطجية لابسين مدنى , ده كان الساعة 5 ونص " . قالها صديقى القبطى لأنه كان يسألنى فى أية مظاهرة تضامنية سأكون فقلت " القريبة من اجتماعى وماسبيرو " . أما هو فكان انضم إلى مظاهرة بشبرا قبل المجئ لماسبيرو . كنت محظوظة بأن أحداً من أصدقائى لم يمت أو يُصب وكان جون محظوظاً حين عبرت رصاصة بجوار أذنه إلى الواقف بجواره . رغم هذا انهارت والدته. قال " عارفة لما تخشى المشرحة تلاقى الجثث فوق بعض ؟ منظر مفيهوش إنسانية . أنا صورت 45 جثة فى التلاجة ". وكان المواطنون حولى يرددون " لو نزّلوا علينا السلفيين مخصوص تبقى خلاص كِملت ". كان هذا رعباً قديماً , عاشه الأقباط أيام مظاهرات ماسبيرو عقب حادثة كنيسة أطفيح حيث حكوا عن إفلات السلطات لعناصر إسلامية وبعض البلطجية لتفريق المعتصمين. وعلى كوبرى قصر النيل كان بعض المواطنين يتجمعون حول مواطن بدا من لحيته أنه سلفى ولكن ليس دموياً ، يتكلمون بغضب لم يفهمه فتدخلت بالشرح موضحة ديانتى . وقبلها بالقرب من ماسبيروكان بعض الشباب يسألون كل رجل قبل بدء الحديث" أنت مسلم ولا مسيحى ؟ " ، قبل أن يبدأوا سرد المأساة أمامنا ، حين يقول " مسيحى" يقولون " مجد الرب". على بعد خطوات من الجثة , مشى فتى بشومة كبيرة بيده . كان صوتى يرتفع بحالة مشاهدة رأس إنسان معجونة , مع احتفاظها بكل الملامح , وغرابتها المطلقة " يا رب ارحمه برحمتك . ارحمه يا رب . مش عارفة أقول إيه " . رد الفتى ذوالشومة " قولى يا يسوع ".