هذه اللحظة التى تنتظر أن يقوم الصامتون بثورتهم الناطقة.. ملايين خرجوا فى مظاهرات واعتصامات ميدان التحرير وميادين مصر، لكن ملايين أكثر بكثير لم يخرجوا.. ظلوا فى بيوتهم يتابعون ثورة الثائرين وهى تتفجر وتقاوم وتنتصر.. وتتحلل أحيانا.. الآن جاء دور هؤلاء الملايين الصامتين أن ينفجروا بثورتهم المكملة أو الثانية ويحددوا شكل مصر وملامح مستقبلها فى السنوات القادمة.. قدر هائل من الأسئلة المربكة والمرتبكة والمشاعر المختلطة والأفكار المتباينة يحوم منذ شهور فى رؤوس هؤلاء.. حسنا، أنت الآن بطل الثورة الوحيد، فكل ما عداك خفت ضوؤه ونحل ظله وخمد وهجه، الثورة على الديكتاتور والظلم والفساد تحتاج إلى ضربتك الأخيرة.. ضربتك الحاسمة.. ليفاجئْنا الصامتون بثورتهم إذن: أولى هذه المفاجآت أن يذهب إلى صناديق الانتخابات خمسون فى المئة من الخمسين مليونا الذين يحق لهم التصويت، فهذا يعنى أن الصامت يهتم ولم يعد يتجاهل ما حوله ومن أمامه (وبالأحرى مَن فوقه!). إنه يدرك أنه مهم وأنه مؤثّر وأنه قادر على إحداث فرق فى صناعة قرار وطنه. وهذا البلد على رغم معاناته من تعليم جاهل وثقافة منحدرة وصحة معتلة وفقر دكر، فإنه قادر على أن يفاجئك فعلا ويدهشك بقدراته الكامنة وأدرينالينه الثورى، لذلك فإنه قد يدهشك ببراعته فى الفرز! نعم مطلوب أن يفرز ويفرق الصامتون بين النص والشخص، بين الكلام المعسول أو الممرور أو المنفوخ الذى يتردد من التيار الدينى أو التيار الليبرالى أو اليسارى أو اللى مالوش فيها وبين الشخص ومدى صدقه وحجم إخلاصه وعمق إيمانه بالناس. يفرز ويفرق بين الأفكار الجاهزة المعلبة عن التيارات السياسية والإسلامية وبين حقيقة كل تيار وقدرته على النهوض بالبلد اقتصادا وتعليما وصحة! اسألوا أى مرشح عما سيفعله للتعليم والصحة، ودعوكم ممن يقول «قال الله والرسول» كذبا أو «قالت البيانات والبرامج» ادعاءً، فالقول سهل، والأهم خطوات الحل. ثم هى فرصة كذلك أن تمسك الأقاليم بمقاليد البلد، فيكفى العاصمةَ هذا المجهود المجهد، على ما فى بعضه من وطنية عظيمة وما فى بعضه الآخر من لغو مقيم، وليصبح صوت دوائر وقوائم الأقاليم بقرار سكانها ومواطنيها هو الأعلى فى التأثير والتغيير. لماذا يبقى الأهم هو الناخب لا المرشح؟ لأننى لا أتصور والحال كما أرى قبل اثنتين وسبعين ساعة من فتح باب الترشح فى الانتخابات البرلمانية أن المرشحين تغيروا، إذن أملى أن يكون الناخبون هم الذين تغيروا.. ما دليلى على أننا لن نرى مرشحين جددا بالمعنى الحقيقى بينما قد نرى ناخبين جددا؟ ما جرى من الأحزاب خلال أسبوع مضى! دعك من أنهم أقل ذكاء وأدنى مسؤولية من أن يتجمعوا فى قائمة موحدة، بل الأحزاب السياسية طفت على السطح بثورها! بدت ضعيفة ومتهالكة وبلا أى قواعد حقيقية بين الناس، أحزاب قديمة مسنّة رضيت أن تلعب دور الكومبارس الناطق مع مبارك وكانت لعبة أراجوزية فى يد مباحث أمن الدولة تحركها من فوقها لتحتها كما تهوى وتشاء، وخلال الثورة كانت ممارستها مدعاة للخجل، حيث كانت مرة أخرى شخشيخة فى يد عمر سليمان يطلبها بالتليفون ويحركها بالريموت وكانت تصدر بيانات متناقضة بين الليل والنهار تتأرجح بين جبنها المتأصل وتبعيتها البائسة لأجهزة أمن مبارك، وبين خشيتها الرعديدة من انتصار الثورة وانكشاف عورة رؤساء هذه الأحزاب، كانت بين ولاء ينضح ويطفح للدولة البوليسية التى فتحت لهم الأحزاب والشركات والمصانع والقنوات الفضائية، وشاركت رئيس حزب فى تجارته وعقاقيره وكانت تمد رئيس حزب بإعلانات لصحيفته حتى تضمن له الصرف على منافقيه ومرافقيه والهجوم على متأسلميه، ثم تعين أمين مخازن أمينا عاما لحزب كانت مهمته الوحيدة أن يكهن هذا الحزب ويحوله إلى خردة سياسية... موالاة مترددة متهتهة متلجلجة لثورة تتصاعد ويلوح فوزها.. ثم عندما أدار المجلس العسكرى الدولة سارعت لتقدم ولاءها المؤجر ورؤساءها الأجراء للجنرالات عسى أن يغيروا الكفيل ويستر عليهم الملفات.. هل تملك هذه الأحزاب أعضاء وجماهير؟ أحدهم يملك مالا ينفقه على شراء بعض الدعاية ويملك اسما تراثيا يثير الحنين إلى الماضى ويملك قصرا يؤهله لادعاء أنه حزب كبير لمجرد أن لديه بهوا يكفى لعقد اجتماعات يغطيها زحام كاميرات تصور وجوها متكالبة تتصارع على الظهور المراهق على الشاشة.. وحزب توُفى رئيسه الذى كان يعانى -رحمه الله- من الزهايمر فى آخر سنواته، بينما تآمر أمين المخازن عضو الشورى المعيَّن من صفوت الشريف بالتليفون مع شخصيات للإيجار السياسى ضد محاولة إحياء الحزب فظل يحمل اسم زعيم كبير يصغر كلما اقترن بهذا الحزب.. أما الثالث فهو قهوة معاشات اليسار التى باخت ذكريات أصحابها وحمضت مشروباتها! هذه الأحزاب المسنّة ظهرت متصابية تماما قبيل أيام من الانتخابات تفك تحالفاتها وتنفرد بقوائمها، كأنها أحزاب بجد، تمارس مراهقة عجوز يتصور لمجرد رؤيته الحبة الزرقاء أنه قادر على أن يفعلها! أما الأحزاب الجديدة ففى هذه اللحظة الحرجة لا تتوقف عن الصبيانية!