هناك قدر هائل من اللخبطة والعكعكة فى المشهد السياسى فى مصر الآن، أكثر ما فيه تعقيدا هو أنه لا أحد عارف بيكلم مين؟ لا القوى السياسية فاهمة المجلس العسكرى كما يعتقد وكما يتمنى، ولديها -فى ما يقول- صورة خاطئة عنه وعن أدائه وأهدافه، ولا المجلس العسكرى عارف من هذه القوى بالضبط؟ فهو وجه جديد على السياسة، وانغماسه فيها قريب جدا ومتأخر للغاية، ولم تكن يوما فى دائرة اهتمامه. من هنا يبدو التواصل غائبا أو ضبابيا بين المجلس -صانع القرارات والقوانين التى يظن أنها مطلب قوى السياسة وجمهورها- وهذا الجمهور الذى لا يرى ذلك، بل ربما يرى عكسه ويطالب بأن تأتى القرارات والقوانين تلبية لما يريد لا إنزالا ممّن يريد، لكن تعال نسأل الآن. من هذا الجمهور؟ جمهور مكون من قاعدتين: القاعدة الأولى التى تبدو الأساسية هى القوى السياسية التى تتكون بدورها من جناحين: الأعرض والأسرع والأكثر تأثيرا هو جناح الشباب فى قلب التيارات السياسية (مثلا شباب الإخوان أكثر نفوذا فى ميدان التحرير من حيث الدعوة والتأثير من الجماعة التقليدية، وشباب اليسار أهم دورا بمراحل من كل الأحزاب المحسوبة على اليسار..)، وبالإضافة إلى هؤلاء هناك أرخبيل من شباب «الفيسبوك» و«الإنترنت» وهم بلا تنظيم وبلا عمود فقرى، لكنهم -بإخلاصهم ودأبهم- يصنعون صخبا ويرفعون سقف النقاشات ويوسعون مساحة الحرية ويثيرون حماس المجموعات الأخرى على الأرض، ويتميز هذا الجناح بأنه القادر على الحشد والتعبئة، والحاصل على المصداقية والثقة فى ثوريته وإخلاصه وترفّعه عن عقد صفقات، أو السعى نحو تنازلات، ثم هو يضغط على أعصاب التيارات التقليدية والأحزاب الكرتونية وزعاماتها الهشة، وهم وقود للإعلام الجديد (الإنترنت ورسائل المحمول) وللإعلام التليفزيونى وللصحف المطبوعة، ثم هو مبادر ومغامر وجسور ومتهور ومناكف ومتفرغ. ثانيا: جناح التيار الدينى وهو يبدو مؤيدا للمجلس العسكرى ومباركا لقراراته، منطلقا من أن المجلس يوفر له فرصة الوصول الآمن للانتخابات البرلمانية ويظن معها أنه قادر على الصعود عبر التصعيد الديمقراطى إلى مقاعد الحكم، فضلا عن أن المجلس العسكرى يبدو هادئا وغير ثورى، وتدريجيا فى قراراته، وهو ما يتفق مع البناء التنظيمى والفكرى لهذا التيار الذى يحترم القيادات ويخضع للتراتبية ويقدم السمع والولاء والطاعة، وهو ما يتناقض كلية مع جناح القوى والتيارات الشابة التى تتمرد وتعاند أحيانا من أجل التمرد والمعاندة فقط، مما يجعل الجناحين على طرفى نقيض فى التكوين الثقافى والاجتماعى والسياسى، لكن جناح التيار الدينى الذى يبدو أحيانا راضيا عن المجلس هو فى الحقيقة راض عن قرارات المجلس لا عن المجلس، ودوافعه نابعة من مصالحه التنظيمية، وكما أنه يبالغ فى التأييد لدرجة أنه يبعث من فرط الإلحاح والفجاجة على الشعور بوجود صفقة، أو بأن هناك توافقا غير مرئى بينه وبين المجلس، فيثير الشك فى قلوب مخاصميه ويثير الثقة فى قلوب أنصاره ويثير الخوف عند الأقباط، لكنه أيضا حين يشعر أن المجلس يتوجه بقلبه أو بعقله للاستجابة إلى مطالب القوى المدنية يهجم ويهاجم وتختلط المصالح مع المبادئ. القاعدة الثانية يقف فيها على هامش هذين الجناحين أحزاب ضعيفة تقليدية بقيادات لا تتجاوز فى أهميتها حدود وجوده ضيفا فى برنامج تليفزيونى أو استكمال الديكور الديمقراطى بهم. شخصيات ذات ثقل إعلامى، لكنها متباينة التأثير على الأرض، فيبدو أنها مهمة جدا فى دوائر، بينما منسحبة عن التأثير تماما فى دوائر أخرى، لكنها شخصيات لها حضور سياسى وإعلامى متشابك يستحق أن نقول إنها تلعب دورًا ما فى اللعبة السياسية والجماهيرية على الساحة! أحزاب جديدة تحبو بين مشكلات التكوين الأولى وأحلام الوجود مع عدم اكتمال أدواتها، فتملأ حيزا على الورق غير ممتحَن بعد فوق الأرض. يبقى سؤال مهم هنا: وأين الشعب؟ الشعب يظهر فى الانتخابات والاستفتاءات، أما فى حالة ومرحلة يمر بها البلد تمتلئ بالفوران الانتقالى والثورة القلقة فيبدو الشعب الجالس أمام التليفزيونات والقارئ للصحف غير مؤثر فى صناعة القرار ولا فى استقباله، الذين يؤثرون هم القادرون على النزول للشارع وتقديم رؤيتهم وفرض وجودهم وخلق حالة الرضا أو الغضب، الرفض أو القبول وهو ما لا يملكه الشعب بعمومه، بل تملكه فقط قواه الثورية والسياسية وجماعات الشباب المحركة. كما أن هذا الشعب بشرائحه المتعددة هو فى الأصل يحترم السلطة أو يخاف منها ويفهم الاستقرار على اعتباره الرضا بالأمر الواقع! ثم هو مغموس فى مطالبه الفئوية المباشرة، يخرج الشباب فى مظاهراتهم من أجل مصر ويخرج الأطباء من أجل الأطباء، والعمال من أجل العمال، والمدرسون من أجل المدرسين، والمهندسون من أجل المهندسين.. والطيبون للطيبات!!