في الرابعة صباحاً انهالت الطرقات علي باب الشقة، وصوت هيستيريا أنثوية يصرخ من الخارج بكلمات متلاحقة ومبتورة، في ملابسي الصيفية انتفضت واقفاً وجريت داهساً أوراقي وفتحت الباب، لمبة السلم مكسورة، الإضاءة شاحبة قادمة من باب المصعد المفتوح في بنايتنا الشاهقة والصامتة.. ملامح الفتاة أخفتها الظلال التي لم تنجح في إخفاء ذعرها، طلبت مني الاتصال بالبوليس وقبل أن تكمل جملتها ظهر شابان متوتران، جذباها بحزم يتظاهر باللطف فسارت معهما نحو طرف الطابق الواسع واختفوا جميعاً عن أنظاري، اكتشفت أنني منذ فتحت الباب لم أنطق بكلمة، وقفت بلا حركة في مدخل شقتي مستنداً إلي إطار الباب، ملامحي صامتة بدورها وبدأ كأنني علقت في بقعة خارج الزمن. سمعت صوت الباب في الناحية الأخري ينغلق، ثم انفتح، وجاء أحد الشابين «آسفين علي الإزعاج» قال لي وهو يرفع يده كأنه يعتذر عن خطأ عفوي، ولمحت خوفاً في ملامحه وهززت رأسي إيجاباً، فانسحب ثم انغلق الباب من جديد. دخلت وجلست ولحظت لأول مرة ارتجافة يدي، وتذكرت طلب الفتاة الاتصال بالشرطة، واكتشفت فجأة أنني لم أحفظ أياً من ملامح الثلاثة، وتذكرت حكايات كثيرة عن أصحاب تورطوا فيما لا يخصهم، وفكرت في أنني أسكن وحيداً وأن الحياة معقدة جداً. تحركت رائحاً غادياً بين الصالة والبلكونة، أعددت لنفسي بعض الشاي، ثم ضبطت نفسي واقفاً وراء الباب أتنصت، وخيل لي أنني سمعت ضجة خفيفة اختفت بسرعة، وبعد قليل سمعت حركة قوية وراء بابي فأجفلت، ثم تبينت من نوع الصوت أنه جامع القمامة، وباغتني ضوء الصباح الأول، وداخلتني الظنون فصورت لي أن صوت جر أكياس القمامة أعلي من اللازم، وأنه ربما يكون صوت سحب شيء أثقل من فضلات السكان، ثم عزوت تفكيري هذا لأعراض النعاس، تأكدت من القفل الداخلي جيداً، ونعست في وقت لم أقدره جيداً لكنني أذكر أنني قبلها سمعت أصوات الموظفين في المصلحة المجاورة. استيقظت بعد الظهر بجفون منتفخة، قمت بكآبة من لم ينم جيداً، ارتديت ملابسي وتوجهت للباب وذكرني القفل المغلق بفتاة الأمس، خرجت وأغلقت الباب، الطابق هادئ كعادته، اقتربت بهدوء وانعطفت يساراً بحذر نحو باب الشقة الغامضة، وقفت قليلاً فلم أسمع سوي صوت دقات قلبي، وبدا لي أني بالغت في تعظيم الأمر، وأن الوحدة لا تتوقف عن إنجاب الهواجس، وأثناء نزولي بدأت في التفكير في مقابلة العمل، وخيل إليّ أن مصعد البناية يحمل بقايا عطر لاذع.