من أشهر الأحاديث الشريفة التي رويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث وسائل تغيير المنكر، يقول الحديث: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان)، وواضح جدا في الشارع المصري أثناء وبعد الثورة المبروكة أن الناس قد طبّقوا مفهوم الحديث كلٌ بطريقته الخاصة حسبما تراءت له قدراته، وحسبما استشعر من إمكانية تحقيق مآربه، والجميع فهم من الحديث أن أفضل الطرق لإحداث التغيير هي طريقة التغيير باليد، وأن أضعفها وأسوأها هي التغيير بالقلب بدليل أن سياق الحديث أقر بأنها أضعف الإيمان، وفي خطاب سابق لرئيس المجلس العسكري المشير طنطاوي، طالب سيادته الشعب بتغيير المنكر باليد إن أرادوا إعادة الأمن إلى حياتهم، كده لو خدت حقي بدراعي بقت رسمي ! فالسيد المشير طلب من الشعب أن يستخدموا قوتهم وسواعدهم لتغيير المنكر الذي حلّ بهم.. فمنهم من سيستعمل قوة ساعده، وآخرون سيستخدمون أسلحتهم، والموقف الآن له عدة ملامح: الملمح الأول: أن طرق التغيير الثلاث المطروحة في الحديث الشريف لا رابع لها؛ اللهم إلا الاستعانة بالخارج والاستقواء به، وهي طريقة مرفوضة وممجوجة ومقيتة وثبت فشلها وبشاعة نتائجها، (مأساة العراق ليست بعيدة) . الملمح الثاني: أن فهم طرق التغيير من الحديث الشريف أنها مفتوحة على الإطلاق لاختيار الأفراد؛ كل حسب تقييمه لقدرته يفتح الباب أمام الفوضى في المجتمع نتيجة لتضارب القوى والمصالح والنوايا؛ فما قد أراه منكرا قد يراه غيري معروفا؛ ويغض الطرف عن القانون الذي من المفروض أن يكون فوق الجميع في دولة القانون، ويتواجه أفراد المجتمع وفئاته وتحسم المواجهات دائما لمصلحة الطرف الأقوى.
وهذه القوى الثلاث التي تحدِث التغيير؛ تتداخل وتتكامل في الظروف العادية والظروف الاستثنائية على السواء، وتجلى هذا التداخل والتكامل في ثورة مصر المبروكة في ميادين مصر، فكان التغيير باليد هو المحصِّلة النهائية للتغيير باللسان وبالقلب، فعشرات ومئات المتحدثين والخطباء؛ عبر ميكروفونات وهتافات ميادين التحرير والقائد والأربعين وفي مختلف محافظات مصر؛ وفي برامج الفضائيات المنحازة وغير المنحازة؛ استطاعوا التأثير بكلماتهم الحماسية المنفعلة - أي بألسنتهم - في نفوس وقلوب مئات آلاف وملايين الثائرين؛ الحاضرين في المظاهرات هاتفين أو الجالسين أمام شاشات التلفزيون في بيوتهم يتابعون ما يحدث، وهؤلاء جميعا بقلوبهم أحدثوا التغيير المطلوب منهم، أي إن القلوب والحناجر تكاتفت وتآزرت لإحداث التغيير بالأيدي الذي قام بتنفيذه فعلا كبار ضباط القوات المسلحة ويمثلهم المجلس العسكري، وهذا التكاتف والتآزر والتكامل بين القوى الفاعلة لإحداث التغيير هو المطلوب في الأحوال العادية بعد انتهاء الثورة، وهو التطبيق الواقعي الصحيح لمفهوم الحديث الشريف وهنا يأتي الملمح الثالث: إن أداء الإنسان لما يستطيعه من هذه الطرق الثلاثة في التغيير لا يعتمد على قدراته أو على اختياره الشخصي بقدر ما يعتمد على الفئة أو الشريحة التي ينتمي إليها، بمعنى أن الإنسان إن رأى منكراً فليسع إلى تغييره بيده إن كان حاكما أو من أولي الأمر، وبلسانه إن كان متحدثاً أو كاتباً أو عالماً أو صاحب رأي، وبقلبه إن كان لا هذا ولا ذاك أي من عامة الناس.
وسأذكر لك عزيزي القارئ مثالا: افتتح أحد العائدين من الخليج في قريته مقهىً للإنترنت، وبعد عدة أسابيع من بدء العمل فيه؛ اكتشف أهل القرية وعائلاتها أن صاحبها يسهل للشباب والفتيان من زبائنه الفرجة على المواقع والأفلام الإباحية، وفي صلاة الجمعة صعد الخطيب إلى المنبر وأنشأ يعدد صفات الشباب المسلم ومزايا الالتزام والاعتصام بالأخلاق؛ ووو ... وطالب الناس أن يقاطعوا مقهى هذا الرجل إذ إنه يفسد أخلاق شباب القرية، وتقدم أحد الموظفين بشكوى موقعة من أهل القرية إلى مباحث الآداب في مديرية الأمن، حتى الآن استخدمت طريقتان من طرق التغيير الثلاث؛ القلب بالمقاطعة واللسان بالتنبيه على المساوئ والأضرار، وبدأ كل أب يحرص على أبنائه ويمنعهم من ارتياد المقهى المشبوه، فلما جاءت قوة من الشرطة لإغلاق المقهى؛ كان التغيير النهائي على أيدي أولي الأمر.. المتحدثون والحكماء وأصحاب الرأي أدوا ما عليهم من التغيير باللسان، والناس قاطعوا المنكر بقلوبهم، ثم كان التغيير الحاسم باليد الحاكمة، هنا تكاملت الأدوار الثلاثة ليتحقق التغيير المنشود في النهاية، ولكن إن حاول الخطيب مثلا أن يذهب مع كوكبة من أهل القرية الغاضبين إلى المقهى ليحطموه ويغلقوه بالقوة؛ أو أن يحاصروا بيت العمدة أو نقطة الشرطة؛ فقد يؤدي ذلك إلى حدوث ما لا تحمد عقباه، وقد يزداد صاحب المقهى قوة، وقد يتمسك به شباب القرية إن أحسوا أنه مظلوم، وقد يكون من البلطجية فتصبح القرية الآمنة ساحة حرب وقد وقد وقد .. أما إن فهمنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما صحيحا واقعيا، فستحل المعضلة، ويؤدي كل إنسان في المجتمع دوره ويحدث تأثيره على قدر ما أوتي من قوة ومن عزم، فإحداث التغيير لا يعتمد على القوة البدنية أو التسليح المتباين، وإنما يعتمد على أن يؤدي كل إنسان دوره دون شطط أو حماقة، المتحدثون وحدهم لن يفعلوا شيئا، والعامة رغم معاناتهم لن يُجْدوا نفعا، واللسان والقلب دون اليد لن يحدثا تأثيرا وواضح من هذا الترتيب أن دور الشعب بالمقاطعة والتأييد والدعاء هو الدور الأعظم تأثيرا؛ لأن عامة الناس هم الأكثر عددا، برغم أنه أضعف الإيمان أي أقل ما ينبغي عمله، إن استوحى بنوه أفكار الثورة من المتحدثين والخطباء، فيضيق الخناق على أولي الأمر الذين يأتي دورهم في الخطوة النهائية التي تجعل التغيير حقيقة واقعة، والكل سيتحمل المسؤولية أمام الله عما فكّر وقال وعمل... واسلمي يا مصر [email protected]