عاصر أبناء جيلي وأبناء الجيلين اللذين سبقانا العديد من الشخصيات المتميزة والموهوبة والبارزة في كل مجالات الحياة، في العلم والدين والثقافة والاجتماع والفلسفة والفن والأدب والشعر والرواية والرياضة والسياسة والاقتصاد، وللوهلة الأولى قد يظن البعض أن أولئك المتميزين هم من نتاج انقلاب 23 يوليو 1952، وأن نظام التعليم الذي أفرزته (الثورة) هو الذي هيأ لهم الفرصة للإبداع والشهرة والتميز، لكن للأسف العكس هو الصحيح.. كيف ؟ كل المتميزين والمشاهير في كل مجالات العلم والثقافة والأدب والفن الذين سطعت نجومهم في العقود السادس والسابع والثامن من القرن الماضي ولا زال عطاؤهم حتى اليوم برغم رحيل معظمهم؛ ولدوا في أوائل القرن العشرين، وتربوا وتعلموا في مدارس وزارة المعارف العمومية أيام الملكية، إذن.. فكل رموز العصر الحديث في مصر؛ الذين لا يحصيهم العدد؛ هم من أبناء العصر الملكي، نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس، عبد الحليم محمود وجاد الحق وخاطر والباقوري والشعراوي، عباس العقاد وزكي نجيب محمود وطه حسين وعلي حسب الله وعبد الصبور شاهين ومصطفى محمود وجلال أمين، محمد التابعي مصطفى وعلي أمين وهيكل وبهاء الدين وأحمد زكي وجاهين وأحمد رجب، علي محمود طه وأحمد شفيق كامل والجارم ورامي والشناويين مأمون وكامل وجويدة ونجم، الحصري وعبد الباسط ورفعت والبنا والمنشاوي ومصطفى إسماعيل، أنور المفتي وهاشم فؤاد وأحمد شفيق وحسان حتحوت وياسين عبد الغفار وبدران وناصح أمين ومحمد غنيم وعلي شمس الدين، أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ومحمد فوزي وشادية، السنباطي والقصبجي وبليغ حمدي ومكاوي، المليجي ويوسف وهبي وزكي رستم والإمام وطليمات وياسين والقصري، عبد المنعم عبده وأبو هيف والتوني ، عثمان أحمد عثمان وعبد الوهاب مورو وحلمي مراد والكفراوي وبنت الشاطئ ونعمات فؤاد، هؤلاء ومئات بل آلاف غيرهم سطعت نجومهم في القرن الماضي، كلٌ تربع على عرش مهنته وموهبته، وامتدت إشعاعاتهم وإسهاماتهم ليس في مصر فحسب؛ بل في كل أنحاء الأرض، وملأوا الدنيا بناء وعمراناً، وعلما وفكرا، أدبا وفنا، جمالا وبهاء، إنجازا ونجاحا، ولأنهم مصريون؛ فقد اعتلت مصر على أيديهم المرتبة الأعلى بين الأمم في أيامهم. أما الآن .. فبعد سبعة وخمسين عاما من الحكم المستبد المطلق؛ فقد أفلست مصر، وما عاد فيها من الأسماء الكبيرة إلا القليل، فحكامها عبر ما يقارب الستين عاما - لكي يستمروا على مقاعد الحكم - حرصوا على وأد كل موهبة، وقتل كل رغبة في التغيير قد تظهر هنا أو هناك، ومنعوا أن يعلو رأس مع رأس الدكتاتور، أو أن يرتفع صوت فوق صوته، اللهم إلا بعض المثابرين الذين كانوا من الأمر الواقع الذي لا يد للحكام في وجودهم.. المهم أن مصر الآن في أزمة طاحنة، أين المفكرون والمثقفون والأدباء والشعراء ؟ أين العلماء والفنانون والمبدعون الحقيقيون ؟ أين الأسماء الكبيرة والبارزة في كل مناحي العلوم والفنون والاقتصاد والرياضة والآداب والآثار ؟ إلى هذه الدرجة من الإفلاس آل حال بلادنا على يد الرئيس الراحل خَلعاً؟ أليس من العيب أن يتدهور الحال في مصر حتى يصبح أشهر مغنٍ فيها هاربا من التجنيد ومزورا لشهاداته ؟ والآخر يترقص مثل النساء ؟ أليس عيبا أن تكون الشهرة والمال والجاه من نصيب الرقعاء والماجنين والمأبونين، بينما يصبح العلماء والمفكرون والأدباء والجامعيون من مستحقي الزكاة ؟ أليس حراما أن يكون أجر الممثل عن دوره في فيلم واحد أو مسلسل واحد يعادل أجر الأستاذ الجامعي في خمسة عشر ألف شهر ؟ أليس من الجنون أن يُبقي المصريون على أوضاع تسمح بأن يكون المتحدث الأشهر في الإعلام رجلا جاهلاً يزهو بجهله وبملابسه الغريبة، بينما تقطع كل السبل بين العلماء والمفكرين والإعلام ؟ أليس من الجنون أن تتنازل أمة عن ريادتها وتدفن لغتها العريقة لتعلم أطفالها اللغات الأجنبية فتحكم على ولائهم وانتمائهم بالهلامية، وعلى البحث العلمي فيها بالفشل، وعلى مستقبلها بالسقوط ؟ أليس عيبا أن يقضي الدكتور عصام شرف أياما وليالي يبحث عن أعلام مصر ليتولوا مناصب الوزارة فلا يجد ! وابحث أنت أيضا أيها القارئ الكريم في عقلك وذاكرتك عمن تظنه مناسبا لتولي هذه المناصب فلن تجد أسماء بارزة أو لها نصيب من الشهرة يؤهلها لتولي الوزارة، اللهم إلا بعض الأسماء من كبار السن ممن تخطوا العمر المناسب لاستمرار العطاء، والدكتور شرف في هذا الموقف لا يُحسَد وقلوب الناس معه وقد يتساءل البعض: ولماذا الأعلام لتولي الوزارات ؟ والإجابة: لأنهم يُتوقع منهم أن تكون عقولهم مرتبة، ولديهم الرؤية الواضحة لنتائج سياساتهم التي سينفذونها في وزاراتهم التكنوقراطية المحترفة، ونحن في مصر نحتاج لمثل هؤلاء من أصحاب الرؤية والفكر، إذ إننا ليست لدينا منذ انقلاب يوليو الوزارات التي تنفذ سياسات وبرامج الحزب الفائز في الانتخابات، فلم تكن عندنا انتخابات أصلا، والحزب الحاكم البائد لم تكن لدى قادته أو قواديه سياسات أو رؤى أو فكر، فالوزراء دوما كانوا يعيّنون في مناصبهم من أهل الثقة لا من أهل الخبرة أعلام البلد.. لكن مصر الآن تغيرت، والمطلوب من أعلامها المختفين فيها تحت غبار إهمال الحكم البائد، المكممة أفواههم من استبداد النظام النافق، والمتميزين خارجها في أوروبا وأمريكا وكندا؛ والمخلصين لهذا البلد المحبين لترابه الخائفين علي مستقبل أبنائه، المطلوب من هؤلاء جميعا ألا يخافوا من تقديم يد العون لبلادهم، وألا يجبنوا فتضيع منهم ومنها الفرصة الثمينة المتاحة أمام الجميع لرد الجميل ، فتعود مصر كما كانت؛ مركز إشعاعٍ للحضارة بكل مفرداتها، يفيض بضيائه وإسهاماته على الإنسانية كلها.... واسلمي يا مصر