الكنبة الأسيوطي – لمن لا يعرفها – هي مقعد طويل من الخشب له ثمانية أرجل، وعليها مرتبة من القطن الثقيل تجعلها مريحة في الجلوس والنوم... هل تتخيل أن تجلس أو تنام على كنبة أسيوطي برجلين فقط ؟ طبعا لا يمكن، لا بد وأن تكون ذات ثلاثة أرجل على الأقل، أو أن تبقى ذات رجلين وتستند على الحائط مثلا، وفي كلتا الحالتين ستكون الجلسة غير مستقرة، أو النوم عليها غير آمن .. هذه المقدمة عن الكنبة الأسيوطي راودتني فكرتها حين ذاع في مصر الهتاف الثوري: الشعب يريد إسقاط النظام، وعندما سقط رأس النظام وتخلى عن منصبه؛ كانت هذه رِجل الكنبة الأولى، فلما استقالت وزارة الفريق شفيق واستبدلت بوزارة شرف لتحل محلها؛ قطعت الرجل الثانية وبقي مكانها شاغرا، وعندما اتخذ قرار حل مجلسي الشعب والشورى كانت تلك الرجل الثالثة، وتبعها قطع الرجل الرابعة بصدور حكم القضاء بحل الحزب الوطني الحاكم، وبعد ذلك كله قطعت الرجل الخامسة حين عجز القائمون على الأمن في وزارة الداخلية عن إعادة تنظيم صفوف الشرطة للأسباب المعروفة للكافة، وعبر الأشهر الخمسة التي تلت الثورة كسرت الرجل السادسة بأن تزعزعت الثقة ثم فقدت بين الشعب والمجلس العسكري الحاكم ومجلس الوزراء المؤقت، فبقيت الكنبة الأسيوطي برجلين اثنتين فقط مستندة على الحائط المائل، الرجلان الباقيتان هما القوات المسلحة وجهاز القضاء، والحائط المائل هو الشعب المصري.. والموقف في هذه الحالة يعتبر سقوطا للنظام بكل المقاييس، فلا رئيس ولا أمن ولا اقتصاد ولا ثقة ولا مؤسسات حكم أو تشريع، ولا عقاب للفاسدين ولا محاكمات حقيقية علنية للمسؤولين السابقين، ولا استجابة من الحكام العسكريين أو الوزراء الحزب وطنيين لطلبات الثائرين، وبدأ القطاع الصامت من الشعب يشكك في جدوى الثورة، وكان عشان إيه يعني ؟ مش كان حالنا أحسن من دلوقتي ؟ وخيارا الدولة الدينية أم المدنية، والمادة الثانية وحقوق الأقباط، والمحاكمات العسكرية للمدنيين، وإطلاق البلطجية والمساجين والخطرين، والتوازنات الإقليمية، والثورة الليبية، وتقسيم السودان والرضا الأوروبي والأمريكي، والتهديد بعودة العلاقات المصرية الإيرانية كورقة ضغط على الحكومات الخليجية، وووو الخلاصة أننا في ثورة، والوضع مهزوز غير مستقر، ومن الطبيعي أن تحدث أشياء ليست في الحسبان، وقد ترتكب بعض الجهات حماقاتٍ لم تكن على البال، أو تأتي الرياح بما لا تشتهي سفن الثائرين كما أتت بما لم تشتهيه سفن الفاسدين، وكل الثورات يجب أن تأخذ وقتا فيه تُرتَب أوضاعُ البلاد، وتغربل كل القوى الظاهرة والخفية، ويفتضح المتحولون، ويخرج البلطجية واللصوص والمجرمون؛ أبناء النظام المخلوع من جحورهم، وتطهر البلاد منهم ومن أفعالهم وخطيآتهم، ثم يبدأ جني الثمار، ولكل ثورة معطياتها وظروف من قام بها، ووضع الثورة المصرية تطابق مع معطياتها ومع ظروف المصريين، فمن قام بها وأشعل شرارتها هم المثقفون والجامعيون والمتعلمون، ثم انضم إليهم الملايين من المطحونين اليائسين المحبطين من تردي الأوضاع الخائفين من المستقبل، وعلت الأصوات في ميادين الثورة مرددة أن الشعب والجيش إيد واحدة ضد النظام، وتوحدت الإرادتان فعلا؛ وكسرت أرجل الكنبة الأسيوطي الستة، وأوشكت على السقوط لولا استنادها برجليها الباقيتين؛ الجيش والقضاء علي حائط الشعب المائل، فهل من خلاص من هذه الورطة ؟ الخلاص الوحيد في رأيي؛ حتى نقوم بإعادة الأرجل الستة إلى كنبتنا الأسيوطي؛ أن يحافظ المصريون جميعا؛ شعبا وجيشا وقضاءً؛ على الرجلين الباقيتين والحائط، موقنين أن رَوحَ الله ترعانا، وأنه تعالى لا يخلِف وعده، أليس سبحانه وتعالى من قال: (إنَّ اللهَ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسِهِم ) - الرعد15 ؟ ونحن نحاول جاهدين أن نغير ما بأنفسنا، وقبلنا راضين أن ندفع ثمن الحرية، والله تعالى سوف يغير ما بنا، ولن يخذل شعبا مؤمنا ينشد التغيير أبدا، طالما لم نيأس من رَوْح الله، ( إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) - يوسف 87... واسلمي يا مصر