4- البحث عن وغد كان (كوخ) في ذلك الوقت قد انتقل إلى برلين، بعد ما تلقى عرضًا سخيًا ليعمل ملحقًا في مكتب الصحة الإمبراطوري. وكانت حمى الميكروبات قد غزت أوروبا كلها .. الصحف تزف في كل يوم نبأ اكتشاف بكتريا جديدة، مع قدر لا بأس به من الخبال .. اكتشاف البكتريا المسببة للسرطان ! اكتشاف نوع بكتريا يسبب كل الأمراض في التاريخ ! الدرن لا تسببه بكتريا واحدة وإنما مائة نوع من البكتريا تهاجم في وقت واحد !
كان الجنون العلمي لا يختلف عن الجنون الذي نراه في صحفنا اليوم، لكن القيصر كوخ ظل محتفظًا بثباته وبروده وصرامته العلمية: "كل نوع من البكتريا لا يسبب إلا مرضًا بعينه .. فقط يجب أن تحصل على سلالات نقية تزرعها بعيدة عن أي تلوث خارجي .." من أجل هذا الغرض ابتكر صيادو الميكروبات أجهزة شديدة التعقيد، لدرجة أنهم كانوا يفرغون من صنع الجهاز فينسون ما الغرض منه .. أما كوخ فقد وجد البطاطس !.. البطاطس سطح صلب يسمح بأن يُزرع عليه نوع واحد فقط من البكتريا. استدعى مساعديه (لوفلر Loeffler) و(جافكي Gaffky) ليخبرهما بما توصل إليه ..وبالدقة الألمانية التي تثير الغيظ جلسوا يتأكدون من نظريته .. في الواقع طلب منهما (كوخ) أن يبرهنا أنه أحمق واهم. (باستير) لم يخلق لهذا النوع من الصبر المضني والدقة الشنيعة .. يقولون إن كوخ كان يتعامل مع اكتشافاته المذهلة باعتبارها اكتشافات خصم له، لديه ألف اعتراض عليه .. كان قاسيًا باردًا يتعامل مع العلم كأي كتاب رياضيات، وفي طريقته لمسة غير إنسانية تشعرك بالرعب .. إن قيصر الطب لم يكن يرحم الجهلاء والمتسرعين .. لاحظي المدعو (لوفلر) يا (عبير) !.. لا تنسي ملامحه !.. إنه الرجل الذي سينقذ البشرية من وباء الدفتيريا فيما بعد. لاحظي (جافكي) فهو من سينقذ العالم من التيفود. كل واحد من هؤلاء سخره الله كي ينقذ العالم من كابوس حقيقي .. جلست (عبير) في أدب تنظر إلى البطاطس المتناثرة في كل مكان ثم سألت: "هل من أثر يا هر كوخ ؟... العينات التي أرسلتها لك " نظر لها للحظة ثم قال: "لا .. لم أجد فيها أية بكتريا .. جربت أن أستزرع منها شيئًا باستعمال كل المزارع الممكنة بلا جدوى .. ربما كان المرض لا تسببه بكتريا .." كان الأمر منطقيًا بالنسبة لها .. بالطبع المرض تسببه بكتريا أو فيروس وإلا لما دارت المغامرة هنا. قالت في ثقة: "أؤكد لك أن المرض تسببه بكتريا" "إذن هي لم تظهر بعد .. هل تعرفين قصتي مع مرض الدرن ؟ ... لقد فشلت تمامًا وفشل الجميع في العثور على البكتريا المسببة له.. تعالي معي لتري ما نقوم به" ]]]]]]]]]] قال (كوخ) وهو يدخل المشرحة: "كنا على يقين من أن الدرن تسببه بكتريا .. قام (كونايم) العالم العظيم بزرع قطع من رئة من ماتوا بالدرن في عين الأرنب. بهذه الطريقة أمكنه أن يشاهد الدرنات المميتة تتكاثر وتزدهر داخل العين، كأنه يشاهدها من نافذة" تراجعت (عبير) رعبًا وهي ترى الجسد الراقد على الرخام. جسد رجل ضخم في الثلاثين من عمره، يبدو أنه قوي جدًا ... بل كان قويًا جدًا ... قال (كوخ) وهو يصلح من وضع عويناته ليرى جيدًا، ثم يخرج مبضعًا من كيس صغير: "هذا العامل كان في خير حال منذ ثلاثة أسابيع .. الآن هو ميت بداء الدرن .. سوف نرى .. سوف نرى .." ومن دون قفاز – لأنه لم يكن اخترع بعد - شق صدر العامل أمام عبير المذعورة.. هنا رأت الرئة .. لم تعد رئة بل هي شيء مخيف .. لهذا سُمي المرض الدرن بسبب الدرنات التي ملأت السطح الوردي .. الدرنات الكريهة التي تحوي مادة شبيهة بالجبن .. "قربي مني المصباح" دنت منه وهي تكتم تنفسها ..وحاولت ألا تنظر .. لو نظرت لأصابتها العدوى ... رأت (كوخ) بيد ثابتة ينزع بعض هذه الدرنات بطرف المبضع ثم يضعها في أوعية صغيرة. ثم أمرها أن تتبعه .. في المختبر الخاص به راقبته وهو يهشم هذه الدرنات بالمبضع ، ثم يخرج خنزير غينيا صغيرًا من القفص – وهو كائن أقرب إلى الفأر الكبير - فيجرح ذيله ليدس فيه هذه الأنسجة المهشمة، ويعيده للقفص .. لما انتهى غسل يديه بثنائي كلوريد الزئبق.. يديه اللتين اسود لونهما فصارتا بلون جلد الحقيبة المدبوغ، وأشعل غليونه في استمتاع وقال: "الآن ننتظر !" كانت في أتعس حال تشعر بأنها صارت مرضًا يمشي على قدمين. تريد أن تغوص في زجاجة حمض الكربوليك بكل جسدها. قضى كوخ الوقت يجرب أن يصبغ تلك الأنسجة بصبغات مختلفة لعلها تظهر له البكتريا الغامضة. وفي ذات يوم كان ينظر تحت المجهر عندما صاح في لهفة: "هناك شيء !!" ودنت (عبير) تنظر عبر العدسة معه لتفاجأ بمجموعة من العصويات الرقيقة الزرقاء وسط أنسجة الرئة .. كأنها سجائر متراصة في علبة. "أترانا وجدنا الوغد ؟" وهرع يصبغ أنسجة عديدة من جسد العامل المسكين ويفحصها .. في كل مرة يجد ذات العصويات .. هنا صرخت (عبير) في جزع وهي تشير إلى الأقفاص التي كانت فيها خنازير غينيا .. كانت الحيوانات البائسة تجلس متكورة ساكنة تنظر في يأس إلى قطع الجزر الملقاة في الأقفاص، ثم تنقلب وتموت .. كان المشهد مروعًا لكنه بالنسبة لكوخ كان أجمل مشهد في العالم .. على الفور شرع يشرح خنازير غينيا البائسة .. "بالفعل !.. تلك العقد الصغيرة تملأ الأجساد من الداخل !... لقد نقلت الداء لخنازير غينيا فمرضت بالضبط مثل العامل !.. هاتي الصبغة الزرقاء !" وراح يصبغ الأنسجة ويفحصها تحت المجهر. وفي كل مرة يجد تلك العصويات الجميلة البشعة .... "إنها هي !!!!" لكن (كوخ) ليس من الطراز الذي يكتفي بهذا. لقد راح يجوب كل مشارح ألمانيا يجمع الأدران من جثث الذين ماتوا بالدرن، ويفحصها .. كانت عادته كما قلنا هي أن يفصل جزءًا من شخصيته يجعله خصمًا عنيدًا قوي الحجة، وهذا الخصم غير مقتنع وعليه أن يبذل المستحيل لإقناعه .. قالت له (عبير): "ألن تنشر ما توصلت إليه ؟" نفث دخان الغليون في وجهها وهتف: "أنشر ؟.... هل تحسبينني عجولاً مولعًا بالدعاية مثل (باستير) ؟ .. لا ." كان يمسك بفأر نقل له داء الدرن .. هنا حاول الفأر التملص وعضه عضة قوية في يده .. صرخ كوخ وأعاد الفأر للقفص ثم غمر يده في ثنائي كلوريد الزئبق وقال: "أه .. !.. عملية صيد الميكروبات هذه مرهقة للأعصاب حقًا !" قالت له (عبير) : "أنت قد برهنت على ما تريد .. انتهى الأمر !" اتجه للوح الكتابة الذي كتب عليه فرضية كوخ، وقال وهو يشير بأنامله المسودة: "ناين .. ناين .. هذا قد يقنع أحمق مثل ذلك الفرنسي لكن ليس أنا .. لقد حققنا الشرط الأول .. الشرط الثاني هو أن نزرع هذه العصويات نقية !.. بعد هذا نحقن فأرًا سليمًا بناتج المزرعة فيصاب بالمرض .. وبعد هذا نجد نفس العصويات داخل أحشاء الفأر بعد موته !" تنهدت في تعب وقالت: "ليس الوقت مناسبًا لذلك . إن مشكلتي الخاصة خطيرة وقد أضعنا الكثير من الوقت .." "بحثي هنا قد يفيد بحثي هناك .. فأنا أبحث عن داء صديقك في الوقت ذاته .. " هكذا راحت في تعاسة تراقب محاولاته لزرع هذه العصويات في المزارع التي ابتكرها .. البطاطس .. الحساء المجمد .. كل أنواع الحساء ... لا شيء .. "هذه البكتريا اللعينة بحاجة إلى طعام يشبه ما تحصل عليه في الجسد الحي" وهكذا قام بإعداد حساء من دم الحيوانات .. وزرع عليه هذه الكائنات ، ثم وضع الأنابيب في الفرن لتكون في درجة حرارة الجسم البشري.. لكنه ظل ينتظر ... وينتظر .. أدرك أنه فشل من جديد، فقد مر أسبوعان على زرع البكتريا ولم تنم بعد، وهو قد اعتاد أن تنمو أية بكتريا خلال يومين .. نام تعسًا وقد عزم على التخلص من الأنابيب صباحًا . لكن الصباح كان يحمل له مفاجأة .. لقد نمت البكتريا !.. نمت في اليوم الخامس عشر .. بيد مرتجفة مد قطعة من السلك البلاتيني وأخذ مسحة من السطح ووضعها على شريحة، ثم صبغها بالصبغة الزرقاء ..إنها هي !... أكثر توحشًا من جيش من الهون وأخطر من عشرة آلاف حية جرس .. قام بحقن هذه العصويات في خنازير غينيا .. بل حقنها في الضفادع والسمك والسلاحف. الحقيقة أن مختبره صار مكانًا مرعبًا .. لاحظ أننا نتحدث عن وباء غامض قاتل لا علاج له حتى ذلك الوقت. لقد نجح ... قالت له عبير في تعب وملل: "ألن تنشر البحث ؟" "بالطبع لن أنشره.. علي أن أثبت أن هذه العصويات تنتقل بالهواء كما يحدث مع البشر !" ]]]]]]]]]] وتدخل عبير المختبر لتجد منظرًا مروعًا .. صرخ فيها كوخ في جنون: "لا تدخلي يا حمقاء !.. ابقي خلف الزجاج !" هرعت لترقب ما وراء الزجاج في رعب. لقد وضع خنازير غينيا في صندوق، ثم جلس هو خارج الصندوق وراح يضخ الهواء يدويًا عن طريق منفاخ .. هذا الهواء يمر على مزارع قاتلة من الدرن. يفعل هذا نصف ساعة كل يوم .. معنى هذا أن الهواء داخل الصندوق يمكن أن يقتل جيشًا .. لا أحد يعرف كيف استطاع أن يدخل الصندوق بعد هذا ليخرج جثث خنازير غينيا التي قتلها الدرن، ولا ما فعله بالصندوق بعد هذا .. الحق إن شجاعة هذا الرجل كانت مرعبة، لكنها ليست أكثر من شجاعة (باستير) و(ريد) كما سنعرف فيما بعد .. في النهاية ظهرت على وجهه البروسي الصارم ابتسامة طفل، وقال لها: "الآن فقط يمكن أن أعلن أبحاثي !"