استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد على صدقات بنى سليم يدعى ابن الأتبية، فلما جاء حاسبه قال هذا مالكم وهذا هدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فهلا جلست فى بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا ). ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( أما بعد فإنى أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولانى الله، فيأتى فيقول هذا مالكم وهذا هدية أهديت لى، أفلا جلس فى بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا، والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئا بغير حقه إلا لقى الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقى الله يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ). ثم رفع يديه حتى رئى بياض إبطيه ثم قال: ( اللهم هل بلغت) . يصاب المرء الصدمة هذه الأيام حين يسمع عما أخذ الحكام من الأموال من مصر، وعما سرق السارقون من شعبها، فهذا سرق أرضا، وذاك أموالا، والثالث أقر قانونا يسهل له ولأعوانه الاستيلاء على ما ليس من حقه، والرابع سكت عن هؤلاء وأولئك بتقاضى الرشى والعمولات، والكل أقر ورسم منظومة الفساد والإفساد حتى أزكمت رائحته الأنوف، وأصبح المصرى الشريف يقف مشدوها مما يرى ويعاين ويعانى، وفى مؤسسة كوزارة الداخلية السابقة؛ حين يأتى آخر الشهر فإن الفساد يتفجر فى أفجر صوره، فالوزير يتقاضى راتبا شهريا بالملايين، ومساعدوه بالمليون، ومن دونهم بمئات الآلاف، والضباط النجوم فى أمن الدولة بعشرات الآلاف، والمميزون بالآلاف، والعاديون والأمناء والشرفاء بالمئات، والعساكر بالعشرات، ووضعا فى الحسبان أن الكل؛ تبعا للدستور المهلهل؛ متساوون فى الحقوق والواجبات، يتبين لنا الفساد الهائل فى توزيع الثروة، والظلم الفظيع الذى تعرض له الشعب المصرى، فملايين الناس مرتباتها ملاليم، وحيتانهم وضباعهم يهبشون الملايين، ولم يشبعوا! وهى غريزة متأصلة فى بنى الإنسان؛ حب شهوة جمع القناطير المقنطرة من الذهب والفضة كما قال القرآن الكريم. وعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف تصرف مع واليه على بنى سليم، فقد أرسى القاعدة الرئيسة لمن سيولى أمور الناس، ويكون شغله العمل العام، ألا يتقاضى مقابل عمله إلا حقه، أى إن مرتب اللواء فى جهاز الشرطة مثلا يجب أن يتساوى مع اللواء مساعد الوزير واللواء الوزير، فكلهم موظفون عند الشعب، لا يتميزون بمرتب أو مخصصات، ولا يتحركون فى مواكب تشل حركة الشارع وتكدر حياة المواطنين، وليتأسوا بسيدى عمرو بن العاص الذى رفض تواضعا أن يركب حصانا حتى توفى، وظل يركب بغلته قانعا بركوبها، ويتجول كسيدى عمر بن الخطاب بين الرعية، ولا عجب .. فقد حققا لشعبهما الأمان، وكان كلاهما رمزا ونموذجا لعدل الحاكم وتجرده، حتى قال شاعر النيل حافظ إبراهيم عن عمر: أمنت لما أقمت العدل بينهمُ فنمت نوم قرير العين هانيها إن كل من استولى من هذا الشعب على مال أو أرض أو جاه أو مصنع أو عقار أو ذهب أو غاز، أو نال مرتبا خرافيا حتى وإن كان بصورة رسمية فى كشوف المرتبات، مستعينا بشيطانه والنظام الفاسد للحصول عليه، سيأتى يوم القيامة يحمل ما استولى عليه على ظهره، ويا له من مشهد! أن يأتي الحاكم الظالم يحمل شعبه بكل مظالمه على ظهره، يقول تعالى: ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) – الأنعام 31، كل قول كاذب يتفوه به الإنسان هو تكذيب بلقاء الله، وكل عملية بيع أو شراء؛ كبرت أو صغرت؛ يشوبها غش أو تطفيف هى تكذيب بلقاء الله، وكل رِشوة يتقاضاها موظف أو عامل ليُتِم بها مصلحة مواطن آخر هى تكذيب بلقاء الله، وكل آكل لحق إنسان مهما كان دينه؛ هو تكذيب بلقاء الله، وكل طبيب أهمل فى علاج مريض فقد كذب بلقاء الله، وكل مقاول وكل مهندس غش فى مواد البناء ليكسب من وراء غشه أموالا فقد كذب بلقاء الله، وكل من اغتصب حق غيره فى أرض أو عقار أو مال فقد كذب بلقاء الله، وكل من يحصل على ما ليس من حقه وهو يعلم أنه ليس حقه مكذب بلقاء الله، وقِس على هذا كل ما نراه فى مجتمعنا من إهمال وكذب ونفاق وقضايا ومظالم وصراعات من قاعدة الهرم إلى قمته، حكاما سابقين أو حاليين أو محكومين، باعة ومشترين، ملاكا ومستأجرين، مهاجرين ومقيمين، عاملين وعاطلين، مسلمين وغير مسلمين، الكل ينطبق عليه القانون الإلهى الوارد فى أول الآية الكريمة؛ التكذيب بلقاء الله هو الخسران المبين، ثم تصف الآية الكريمة حال المكذبين بلقاء الله يوم القيامة، حين يرونه حقا، فيتحسرون ويندمون على ما ضيعوا من فرص الطاعة فى حياتهم، يومها.. يأتون يحمل كل منهم أوزاره على ظهره، ويا له من وصف رهيب، كل من استولى على أرض أو أموال ليست من حقه؛ يأتى يوم القيامة يحملها على ظهره، كل كذبة كذبها وكل فرية افتراها، وكل صفقة بيع أو شراء فاسدة أجراها؛ وكل رشوة تلقاها، وكل سلعة احتكرها وضاعف سعرها، يأتى يوم القيامة يحملها فوق ظهره، هذا فى الآخرة. ولكن.. ماذا عن الدنيا ؟ لقد تكرر قول الله تعالى فى القرآن أن الله سريع الحساب، ومما قد يقال فى تفسير هذه السرعة فى الحساب أنه تبارك وتعالى يسرع فى حساب الخلق على أعمالهم فى الدنيا، فينال المحسن جزاء إحسانه فى الدنيا، ويلقى المسيئ عقاب ما أساء فى الدنيا، والكل ينتظر لقاء الله تعالى فى الآخرة، فالحكام المفسدون وأبناؤهم وزوجاتهم وحاشياتهم ومؤيدوهم العالمون بفسادهم وإفسادهم، وكل من ساندهم أو ساعدهم أو نقل عنهم ونافقهم وتسلق على سلطاتهم وجاههم؛ الكل سيسرع الله تعالى بحسابهم فى الدنيا، وسنرى إن شاء الله ما سيحدث لهم، ليعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون... واسلمي يا مصر.