كم هو محظوظ الرئيس السابق ( فيما أرجو!) محمد حسني مبارك! ليس لأن المجلس العسكري الذي يدعي أنه نحاه تماماً و انه ينتصف للمطالب المشروعة للثورة كان رفيقاً رحيماً به، و لا لأنه مازال طليقاً هانئ المقام في مكان أصفى هواءً يحظى بمزايا الرؤساء دون مسؤولياتهم بعيداً عن زحام القاهرة و ضجيجها و تلوثها، و لكن لأن القدر اهدى إليه الأخ العقيد، قائد ثورة الفاتح و الغامق، ملك ملوك أفريقيا الخ...بل لعل منظومة الطغيان و عقدها النحس لم تلمع طاغيةً بعد الأطاحة به كما فعلت مع مبارك،؛ كيف لا، و جرائمه و قمعه( خصوصاً إبان الثورة ) لا تقارن ، بل تتقازم أمام جرائم أخيه القذافي و جنونه المعربد. لكن الرجلين يتفقان و يلتقيان في نقاطٍ عدة، مما يدل على أن جوهر الطغيان و آلياته واحدة في كل مكان. ففضلاً عن كون المؤسسة العسكرية قد نزحتهما إلينا من إحدى مصارفها، فالاثنان مكثا على أنفاس الناس طويلاً وبما يفوق مقدرة البشر على التحمل فأفنيا أجيالاً. كما أن الاثنين قاتلان وباطشان و مبددان لثروات شعبيهما بالهبل، و لا يعرف الكرم طريقه إليهما سوى في الفقر العميم الطاحن و الرصاص الحي من كل لون على مزاجك و الموت البشع الرخيص المجاني . الأهم من ذلك هو إسهامهما القيم و المحمود، و فيما يشبه الاتفاق، على إنجاح الثورة ضد نظاميهما حين اختارا إما أن يكتبا خطاباتهما الأخيرة أو أن يعهدا بذلك إلى أفرادٍ من بطانتيهما ثبت أنهم لا يختلفون عنهما جهلاً و نزقاً و غروراً بحيث أتحفونا بهذه الدرر البديعة النظم التي كانت بمثابة الزيت انسكب على نيران الشعب الثائر المغتاظ الذي شاهد أبناءه، مستقبله، و أجمل ما فيه يسقطون تحت عربات الأمن المركزي و صرعى برصاص القناصة. الشكر كل الشكر للرئيسين! فقد منحانا إطلالةً ثمينة ً وفريدةً في رأسيهما، وعجبي و لا ألف ليلة و ليلة! لقد تعرى الرجلان تماما و فضحا ما كان كتبة السلطان و إعلاميوه يتفننون في إخفائه و أثبتا، بما لا يدع مجالاً للشك السنين الضوئية التي تفصلهما عن الواقع؛ فهما لا يريان سوى نفسيهما و مجديهما الزائفين الذين خلقاهما نفس الإعلاميين، فهما بطلا الحروب التي لا تسأل كيف أوصلتنا بطرق ٍ مباشرو أو ملتوية إلى ما نحن عليه من هزيمة و ذلة و ضعف، وهما صانعا الرخاء و رائداه يشهد على ذلك قصورهما و قصور أعوانهما و الرعاية الصحية المتميزة التي يحظيان بها و التي تتناقض مع الفقر المدقع المذل المهين و العشوائيات و الناس الذين يموتون كالكلاب الضالة في الطرقات من نقص العلاج و الإمكانيات.. و كأن لسان حال كلٍ منهما:' ما أنا كويس أهه..أمال فين المشكلة؟!‘ و هما الفصيحان، اللبقان، المتحدثان، الذكيان، الوسيمان ( أليست لك عينان؟!) شكراً لثورتي الشعبين و لخطابات الرجلين افقنا من سباتٍ العقود لنذهل و نصدم من كم التفريط و فحش الأكذوبة...لنرى باعيننا الحقيقة كما لم نرها من قبل و لنأسف على ما آلت إليه حالنا و حال بلدنا...و على قدر المفاجأة أتى الغضب... أستطيع الاستمرار إلى ما لا نهاية في عقد المقارنات و تبيان أوجه الشبه بين الطاغيتين، إلا أنني أود الالتفات إلى ما هو أهم، إذ لما كنا جميعاً خائفين مرعوبين من عودة النظام القديم و الثورة المضادة توجب علينا أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال المحوري ، بل أن يصبح هاجسنا باحثين له عن إجابةٍ شافية، صادقة و مقنعة. لماذا تفرز مجتمعاتنا مثل هؤلاء الطغاة؟ من المسئول عن استفحال طغيانهما إلى الحد الذي يغدو فيه خلعهما أو مجرد الحلم به ضرباً من الجنون؟ من الذي فرعن فرعون؟! لا بد أن نسأل أنفسنا و قد رأينا تفاهة الرجلين و طيشهما و سطحيتهما و غرورهما بل و خبل أحدهما و أبصرنا على لهيب الثورة و بفضلها أفكارهما السوداء وتلال أعمالهما الأسود و مدى قبح الواقع الذي كانا رمزه: من الذي خدعنا؟ مَن الذي صنع قفاعة الغش التي انفجرت لتوها؟ مَن الذي خلق الأكذوبة؟! مَن الذي أرضعنا الكذب و فطمنا على الكذب و ربانا و أعاشنا و أماتنا على لكذب و بالكذب؟! دون أدنى شك لتجدن كل الطرق و 'الزنجات‘ تفضي بك إلى تلك الجمهرة من الإعلاميين و المثقفين و فقهاء السلطان الذين باعوا أنفسهم وملكاتهم و بضاعتهم من الثقافة و الفكر بالجوال صانعين الطاغية و نظامه. من الذي باع ضميره؟! من الذي صنع من الرجلين بطلي حرب و ضخم من دوريهما؟! من الذي طلع ديننا بالضربة الجوية الأولى كما لو كانت هي الحرب مغفلاً الدور المحدود الأهمية للطيران( نظراً لضعف السلاح ) إذا ما قورن بالدفاع الجوي مثلاً الذي 'شال‘ الحرب؟ ألم يكن من الأحرى بهم التأريخ لمعركة الجمل و الجحش وطائرات الف 16فوق الشعب الأعزل و الإبادة الجماعية التي يشنها العقيد على شعبه؟! من الذي أقنعنا بحكمتهما في حين يتصف احدهما بالبلادة التي لا مثيل لها و الآخر بالخبل الأخرق؟ من الذي نظم قصائد الشعر و المديح و دبج و لحن الأغاني من أمثال 'اخترناك اخترناك‘ ؟ من الذي منح الجوائز ذات العائد المعنوي و المادي للمزيفين و محدودي الموهبة و المنافقين؟ من الذي ضرب في خلاط الأفكارمخلفات القومية و الاشتراكية و الوجودية و النشوء و الترقي و العروبة و المهلبية مع إسهامات الرجل (و لك أن تتخيلها!) و صنع منها لبوساً ساماً سماه 'الكتاب الأخضر‘ و أعطاه للأخ القائد فصنع منه ما ترون و تركه على هذه الحالة من الخبل و انعدام الاتزان؟ و الله ، إني لعلى يقين من أنه كان يسخر منه في قرارة نفسه، و ربما لم يكن يتصور أن المزحة ستخرج عن السيطرة و تغدو كابوساً أسود يعمم على الخلق و تعقد له المؤتمرات و ترصد وتهدر الميزانيات الضخمة لمناقشة فكر ' الكتاب الأخضر‘! بربكم، اليست مفارقةً مضحكة و مؤسفة أن تستخدم كاميرات و أدوات صوت هي أرقى ما توصل إليه العلم في اليابان و أالمانيا لتصوير مخلوقٍ بدائي معتوه كالأخ العقيد ليتحفنا بعصير أفكاره الخربة؟! إن الطاغيتين لم يهبطا علينا من المريخ بل هما صناعة محلية بحتة، و لئن كان الغرب دعمهما فذلك لا ينفي مسئوليتنا و المسئولية الأكبر على الإعلاميين و الكتبة المنافقين و جيش الموظفين ، الذين لم يعرفوا سوى 'كله تمام يا أفندم‘و 'ما تضايقوش الريس‘. هم أنفسهم الذين بحثوا في الكتب الصفراء و الحمراء عن أسوأ و أحط ما في تراثنا ثم انتخبوا لنا باقة من الخردة من مزابل الأفكار فعمموها علينا، و هم أيضاً كتبة التقارير و الذين نشروا اليأس من التغيير و الأساطير عن منعة النظام و تفننوا في إخفاء التعذيب و القمع و شتي جرائم النظام. الأهم من كل ذلك، لقد أثبتوا بحق أنهم رجال كل العصور و أن مقدرتهم على التغيير السريع لا تبارى و لا تضاهى. يا الله! نفس السحن التي كانت تذرف الدموع عشقاً و أسفاً على الرئيس المخلوع ( و ' المعصلج‘) مما لا قاه من جحود تبكي اليوم أنهاراً على شهداء الثورة منددةً، بحرقة، بالطاغية و عهده! بل هناك من يريد ان يبكينا في استجداءٍ مقيتٍ للعواطف على المرحومة أمه التي لم يمهلها القدر حتى ترى إعلاء راية الحق و العدالة! دون الدخول أو الانسياق في تعريفاتٍ و تنظيراتٍ لا بد من التأكيد على أن الثورة ليست مجرد الإطاحة ببضعة شخوص و رموز و إحلال آخرين محلهم، و إنما الثورة هي بناء مجتمع ٍ جديد بثقافةٍ و عقليةٍ جديدتين، و من أجل بناء هذا المجتمع لا بد من التطهير الحقيقي، تطهيرٍ للفاسد من الأشخاص و القوانين و الأفكار التي تمهد الطريق للطغيان. لا بد من ثورةٍ شاملة تعيد تقييم الستين سنة الماضية و خاصةً هاته الثلاثين الأخيرة من عمر النظام بأحداثها و افكارها و شخوصها. لا ثورة بدون ذاكرة، و ذاكرتها هي القوائم السوداء... قوائم بكل من خدع و كذب و نافق و أكل و شرب على موائد الطغيان، قوائم بما فُعل و ما قيل. إن الوثائق و الملفات التي أنقذت من مقار امن الدولة ملكٌ للشعب المصري و لثورته، منها نرى حقائق الكثيرين دون المساحيق و الأقنعة، و إلا صارت الثورة عرضةً للوقوع غنيمةً في يد نفس المنافقين الذين سيصنعون بلا شك طاغيةً آخر، كما يتعين علينا أن نذكر دائماً أن المشكلة ليست في النصوص و القوانين و إنما في القائمين عليها. بانتباهٍ مركز ٍ على الثورة الليبية يتنازعه اقتحام مقار و أوكار أمن الدولة و ما تكشف داخلها من أهوال ، و أمام كم الفساد الهائل المرعب، و فضائح رجال النظام السابق ، و أمام المشاهد المغيظة لإعادة تشكل جوقات الإعلاميين الذين لم تعرف المياه طريقاً إلى وجوهم العكرة، و إعادات لا حصر لها لدرر القذافي، و من يبكي أمه ، لا أملك سوى أن أوجز ما بنفسي بفائضٍ من القرف و التهكم: فعلاً ..بلاوى!