النقل: تطوير البنية التحتية للموانئ لتحويل مصر إلى مركز إقليمي للنقل واللوجيستيات وتجارة الترانزيت    فيديو.. ترامب يتحدث عن أعدائه الجدد بعد زيارة بن سلمان: يغارون منا    شيكابالا يصل حفل الكاف السنوي للأفضل في إفريقيا برفقة زوجته    مدرسة النصر القومية: التحقيق مع جميع المسئولين عن تنظيم اليوم الترفيهي    السكة الحديد: تسيير الرحلة الثالثة والثلاثين للأشقاء السودانيين ضمن برنامج العودة الطوعية    السكة الحديد: استكمال مسامير التثبيت المفقودة قضبان السكة بالفلنكات الخشبية في شبرا الخيمة وإحكام ربطها بشكل كامل    جمال حسين: 54 ألف عضو تحت مظلة الاتحاد الدولي للمثقفين العرب    بسبب الإقبال الكثيف، الأزهر يعلن رابط التسجيل في الموسم الثالث من مسابقة فارس المتون    الملحقان العالمي والأوروبي.. 22 منتخبا يتنافسان على 6 بطاقات للتأهل إلى كأس العالم 2026    عن عملات مستقرة وغير مستقرة    الخبراء في PAFIX: المنظومة الجديدة ستقضي على 15 مليون زيارة للفروع سنويًا وستطلق أكبر عملية شمول مالي    أحلام ناخب    ضبط صانعة محتوى بثّت فيديوهات خادشة للحياء بهدف الربح.. فيديو    الدكتور مصطفى ثابت يقدم خالص العزاء للنائب محمد شبانة عضو مجلس نقابة الصحفين    محمد سامي يثير الجدل بمطالبة جمهوره باختيار موعد عرض مسلسله الجديد 8 طلقات    نجوم الفن.. سلامتك يا تامر    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    دول منظمة D-8 تعتمد إعلان القاهرة لتعزيز التعاون الصحي المشترك    خبراء الطب يحذرون من التشخيص الخاطيء ل«الانسداد الرئوي»    منتخب مصر في المستوى الثالث لكأس العالم 2026 بعد تصنيف فيفا لشهر نوفمبر    هل دخل الشقق المؤجرة الذي ينفق في المنزل عليه زكاة؟.. أمين الفتوى يجيب    46.200 مشجع في استاد القاهرة لمباراة الزمالك وزيسكو بالكونفدرالية    محافظ كفر الشيخ يناقش جهود مبادرة «صحح مفاهيمك» مع وكيل الأوقاف الجديد    تعزيز الانتماء والولاء عبر أدب اليافعين في مناقشات المؤتمر السنوي العاشر    من يعود إلى المنزل بهذه الجوائز.. كاف يبرز كؤوس الأفضل في حفل الرباط    غرامة 100 ألف للمخالف.. بدء الصمت الانتخابى بانتخابات مجلس النواب ظهر غدا    جنازة المخرج خالد شبانة عقب صلاة العشاء بالمريوطية والدفن بمقابر العائلة بطريق الواحات    شيخ الأزهر: القضاة ركيزة أساسية في إرساء العدالة وبسط الأمن والاستقرار في المجتمعات    منتخب مصر يتراجع في تصنيف فيفا ويحتل المركز 34    جامعة أسيوط تطلق قافلة طبية مجانية لعلاج أسنان الأطفال بكلية طب الأسنان    وجبات ذهبية للأطفال بعد التمرين حفاظا على صحتهم ونشاطهم    بعد اكتمال المشروع| ماذا تعرف عن الكابل البحري العملاق 2Africa ؟    المسلماني: برنامج دولة التلاوة يعزز القوة الناعمة المصرية    استعدادا لاستضافة cop24.. البيئة تكثف أنشطة التوعوية بالمحافظات    الأرصاد تكشف تفاصيل الطقس..ارتفاع درجات الحرارة مع فرص أمطار متفرقة    انهيار والدة وخطيبة صاحب ملجأ حيوانات ضحية صديقه أثناء جنازته.. صور    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    سارة خليفة متورطة في شبكة عائلية لتصنيع وترويج المخدرات    منتخب شباب الهوكي يتوجه للهند 23 نوفمبر للمشاركة في كأس العالم    وزير الري يلتقي نائب مدير الوكالة الفرنسية للتنمية    إزالة 296 حالة مخالفة ضمن «المشروع القومي لضبط النيل» بالمنوفية    أول تعليق من إبراهيم صلاح بعد إقالته من نادي جي    الإسماعيلي ينفي شائعات طلب فتح القيد الاستثنائي مع الفيفا    محمد حفظي: العالمية تبدأ من الجمهور المحلي.. والمهرجانات وسيلة وليست هدفا    الصحة: مصر خالية من الخفافيش المتسببة في فيروس ماربورج    معرض رمسيس وذهب الفراعنة في طوكيو.. الأعلى للثقافة: دليل على تقدير اليابان لحضارتنا    فيلم بنات الباشا المقتبس عن رواية دار الشروق يُضيء شاشة مهرجان القاهرة السينمائي    شقيق إبستين: كان لدى جيفري معلومات قذرة عن ترامب    الأهلي يحصل على موافقة أمنية لحضور 30 ألف مشجع في مواجهة شبيبة القبائل    المصرية لدعم اللاجئين: وجود ما يزيد على مليون لاجئ وطالب لجوء مسجّلين في مصر حتى منتصف عام 2025    الإحصاء: معدل الزيادة الطبيعية في قارة إفريقيا بلغ 2.3% عام 2024    رئيس الأركان يعود إلى أرض الوطن عقب مشاركته بمعرض دبى الدولى للطيران 2025    مقتل 6 عناصر شديدى الخطورة وضبط مخدرات ب105 ملايين جنيه فى ضربة أمنية    الدفاع الروسية: قواتنا استهدفت منشآت البنية التحتية للطاقة والسكك الحديدية    وزير الإسكان يستقبل محافظ بورسعيد لبحث استعدادت التعامل مع الأمطار    جامعة قناة السويس تنظم ندوة حول الإسعافات الأولية لتعزيز التوعية المجتمعية    إطلاق أول برنامج دولي معتمد لتأهيل مسؤولي التسويق العقاري في مصر    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طارق الشناوي يكتب: «سناء جميل» سيدة الهمس البليغ!!
نشر في الدستور الأصلي يوم 22 - 01 - 2010

في الأدب شعر ونثر، وفي الأداء الدرامي أيضاً شعر ونثر.. عدد محدود جداً من الممثلين هم الذين ينطبق عليهم تعبير شعراء التمثيل.. علي رأس هذه المدرسة والتي تشغل مقعد الناظرة فيها وتقف شامخة أنها سناء جميل أحد كوكبة قليلة جداً يملكون لحظات تجل خاصة يلعب فيها اللاشعور دوراً أكبر من الشعور.. إنهم يلتصقون بالشخصية التي يلعبونها تتحول إلي نبضات في عروقهم ودقات في قلوبهم.. كانت «سناء» زعيمة في التحليق الفني وهي تبرع في أدوارها القليلة بمقياس العدد العميقة بمقياس الإحساس والتأثير.. حاصرت «سناء جميل» السينما المصرية بقواعدها التي توارثناها، وهي الأغراء والجمال الصارخ، وحاصر المسرح «سناء جميل» بقواعده التي تعلي من شأن أيضاً الأداء الصارخ الجهوري.. الانفعال الزائد الذي ينتقل إلي جمهور الصالة من أجل أن يبكي مثل الأبطال أو يصفق أو يضحك بنفس درجة الصخب الزائد الذي يراه علي خشبة المسرح.. أما في التليفزيون فإن «سناء جميل» وجدت فيه كل القواعد والتراث التقليدي للسينما والمسرح الذي لا يترك مجالاً للهامسين باللفتة والنظرة والإيماءة والتنهيدة وكان من المنطقي أن تستسلم «سناء جميل» وترفع الراية، فلا يمكن لفنان أن يطبق قانونه الخاص علي قانون سائد كان من الممكن أن تتحول من فنانة تعبيرية إلي فنانة خطابية من الهمس إلي الصراخ وما أسهل أن تكون صارخاً لكنها كانت ستصبح شيئاً آخر غير «سناء جميل» التي عشقناها.. كانت ستتحقق بمقياس العدد عشرات من الأدوار تنهال عليها ورصيداً ضخماً في البنك لكنها عاندت وسبحت ضد التيار، ولهذا رأها «د. طه حسين» عميد الأدب العربي بإحساسه وتواصل معها وعندما شاهدها علي المسرح قال كلمته الشهيرة «ليس لأحد علي تمثيلها سبيل».. انتهت كلمة «طه حسين» التي تلخص بدقة مدرسة «سناء جميل» فهي صحيح ابنة المسرح بكل طقوسه وأساتذته وأساليبه الكلاسيكية، ورغم ذلك عندما اعتلت خشبة المسرح كان لها أسلوبها المغاير لكل من سبقوها ولقنوها كما قال «طه حسين» بكل بلاغة وعمق ليس لأحد علي تمثيلها سبيل.. هكذا تواصل معها «طه حسين» منذ أكثر من نصف قرن، رغم أنه يدين بإحساسه الدرامي إلي تراث أسبق بمنهج مختلف قدمه «جورج أبيض»، و«يوسف وهبي»، و«عزيز عيد»، و«فاطمة رشدي» وغيرهم لكنه لمحها وأمسك بهذه القدرة علي التعبير.. لو حسبتها بالأرقام فلن تجد في رصيدها الفني الكثير، إنها الأقل عددًا بين كل الفنانين من جيلها سواء في المسرح أو السينما أو التليفزيون.. لكن الفن لا يعترف أبدًا بالمقياس الرقمي ومع سناء يصبح عمق الإبداع هو الفيصل وليس شيئًا آخر.
وعندما تتأمل أفلامها لا شك أن «بداية ونهاية» سوف يبرق أمامك، وعلي الفور يحتل مقدمة الكادر دور «نفيسةً الذي صار عنوانًا لها في السينما رغم أن لها العديد من العناوين الجذابة ولكننا تعودنا علي سبيل الاستسهال أن نختصر الفنان في دور!!
حكي لي «صلاح أبو سيف» أنه رشح «فاتن حمامة» لأداء دور «نفيسة» في «بداية ونهاية» تحمست «فاتن» ثم عادت وتراجعت فهي لا تريد أن تؤدي دور فتاة تبيع نفسها، رغم أنها لعبت هذا الدور من قبل في «طريق الأمل» لعز الدين ذوالفقار وقدمته بعد ذلك في «الخيط الرفيع» لهنري بركات.. أتصور أيضاً أن ملامح «نفيسة» ليست هي المرأة الجميلة ولكنها ذات حظ محدود جداً من الجمال أو بالأحري تخاصم الجمال.. كانت «سناء» كما قال لي «أبو سيف» في خياله وهو يعيد تسكين الشخصيات، لكنه أراد أن يبدأ بفاتن وعندما لم تتحمس علي الفور كانت «سناء» هي «نفيسة»، كانت أكبر تحية تلقاها «صلاح أبو سيف» من «فاتن» عندما شاهدت الفيلم في أول عرض خاص، حرص «أبو سيف» علي دعوتها وكانت تجلس بجواره وبعد العرض مباشرة قالت له كان عندك حق يا «صلاح»..
وشارك هذا الفيلم في مهرجان «موسكو» وتذكر «أبو سيف» ملمحاً آخر لسناء جميل هي و«فاتن حمامة» التي شاركته أيضاً بالمهرجان، حيث عرض لها «نهر الحب» اكتشف الأمن في الطائرة أن «صلاح» ليس لديه تأشيرة دخول للاتحاد السوفيتي، وقرر ضابط الأمن ترحيل «صلاح أبو سيف» ولكن «سناء جميل» ومعها «فاتن حمامة» قالتا نعود إلي مصر مع «صلاح» وأمام هذا الموقف تم دخول «صلاح» في سابقة كان الكل يعلم أنها مستحيلة التكرار في أي ظرف آخر.. وعلاقة «أبو سيف» بسناء جميل امتدت بعد ذلك مرتين في فيلم «الزوجة الثانية» عام 68 والثانية في آخر أفلامه «السيد كاف» عام 93.
في فيلم «بداية ونهاية» نتابع تلك العلاقة التي نسجها ببراعة «صلاح أبو سيف» وكتب لها السيناريو والحوار «صلاح عز الدين» و«أحمد شاكر» و«كامل عبد السلام».. كانت «سناء جميل» بملامحها هي عنوان تلك الطبقة الفقيرة المطحونة.. كيف تغيرت العلاقة مع البقال «صلاح منصور» من الندية والتحدي إلي الاستجداء بأن يتستر عليها بعد أن سلب منها شرفها، براعة ممثلة تنتقل بأستاذية من موقف إلي آخر.. نظرة عينيها وهي تترجي شقيقها «عمر الشريف» بعد ضبطها في قضية الآداب، استطاعت في لمحة واحدة أن تجمع بين الضعف والإحساس بالذنب وهي لا تجد أمامها سوي الانتحار.. ويتكرر الأمر مرة أخري مع «صلاح أبو سيف» في «الزوجة الثانية»، كيف عبرت عن غيرة الزوجة، فهي الزوجة الأولي العاقر وهي التي تختار المرأة الولود لكنها لا تطيق أن تري زوجها وهو يلهث وراء امرأة أخري، الغيرة القاتلة المغلفة أيضاً برغبة لامتلاك طفل ليس لها.
قبل ذلك أعود بكم إلي سهرة تليفزيونية مع بدايات التليفزيون عام 60 مونودراما باسم «رنين» تلعب بطولتها «سناء جميل» من إخراج «حسين كمال».. هي فقط التي نراها في الكادر ثم كانت هي في أول فيلم روائي وقع اختيار «حسين كمال» عليها في أول أفلامه «المستحيل».. مع «أشرف فهمي» أكثر من لقاء أهمها «المجهول» المأخوذ عن مسرحية ألبير كامي «سوء تفاهم».. اعتمد أشرف علي الاقتصاد الشديد في التعبير، فكانت «سناء جميل» علي القمة مع «عادل أدهم» و«نجلاء فتحي».. ثم مع المخرج عاطف الطيب «البدروم» إنها البوابة «أم الخير» انتقلت من واقعية «صلاح أبو سيف» إلي الواقعية السحرية التي يقدمها تلميذه النجيب «عاطف الطيب».. أتذكر في فيلمها «سواق الهانم» للمخرج «حسن إبراهيم» عام 1994، أنها الهانم التي تقرر أن تستعين بالسائق الشهم «أحمد زكي» ولكنها تعامله بقدر كبير من الصلف والغروب، أبدعت «سناء جميل» في أداء الدور إلي درجة أن المركز الكاثوليكي المصري رشحها للتكريم عن مجمل أفلامها هي و«عادل أدهم» الذي لعب دور زوجها المقهور في الفيلم.. في اللحظات الأخيرة تراجع رئيس المركز الأب «يوسف مظلوم» عن تكريمها.. كنت عضواً في لجنة تحكيم المهرجان وعندما علمت بقرار المركز الكاثوليكي تناقشت مع الأب «يوسف مظلوم» قال لي لقد كانت قاسية جداً علي زوجها وعلي السائق وعلي ابنتها ونحن في المركز نكرم دائماً القيم النبيلة التي يدعو إليها الفنانين.. فأجبته قائلاً ولكن الفيلم نفسه يشجب هذا السلوك ولو لم تبرع «سناء جميل» في أداء دورها ما كان من الممكن أن نكره الغرور والصلف، واقتنع الأب «مظلوم» فعادت مرة أخري «سناء جميل» لقائمة المكرمين بعد أن كانت مستبعدة بسبب صدق أدائها. مع «شريف عرفة» و«وحيد حامد» جاء اللقاء في «اضحك الصورة تطلع حلوة».. تقدم «سناء جميل» دوراً أقرب لرمانة الميزان، يحمل الفيلم الواقعي كل أحلام التصالح مع الحياة. وفي التليفزيون أنت أمام قامة كبيرة فهي من الرعيل الأول وتظل «فضة المعداوي» في «الراية البيضاء» هو الدور الأثير لقد منحته «سناء» من مشاعرها الكثير وأضفت عليه ألقاً خاصاً وكانت هي السيدة التي تسيطر بنفوذها ومالها علي الجميع، لم تسقط في فخ المبالغة أو الجري وراء إيفيه الناس رددت وراءها حوارها، صارت «فضة المعداوي» هي أفضل شخصية درامية نسجها «أسامة أنور عكاشة» صاحب النصيب الأكبر في كل الدراما العربية وأتذكر أنني سألت «أسامة» الذي قدم عشرات من الشخصيات الدرامية التي أطلت علينا من الدراما وكأنها آتية من عالم الكاتب لتعيش بيننا وتستقر في وجداننا سألته عن «فضة المعداوي»، أجابني هي الأكثر اقتراباً وأن ما منحته «سناء جميل» للشخصية من حياة وروح فاق كل تصوراته علي الورق!!
في المسرح لا أنسي لها «الحصان» مونودراما كتبها «كرم النجار» وأخرجها «أحمد زكي» وهو بالطبع غير «أحمد زكي» النجم السينمائي.. فهو واحد من أهم مخرجي المسرح وكان أستاذاً لأحمد زكي في معهد التمثيل.. أيضاً «زهرة الصبار» مع «عبد الرحمن أبو زهرة».. كان بين «سناء جميل» و«سميحة أيوب» نوع من المقارنة فرضتها الأحداث، الاثنتان من نفس الجيل وأستاذهما الأول هو «زكي طليمات» وكل منهما كانت تستحق لقب «سيدة المسرح».. سنوات الشباب حملت قدراً من التنافس والصراع ولكن السنوات الأخيرة كانت الحب هو الذي يسود والصداقة هي التي تعلن عن نفسها.. تستطيع أن تقول وأنت مطمئن إن سميحة أيوب «سيدة المسرح» وسناء جميل «سيدة الإحساس» في السينما والمسرح والتليفزيون فلقد كانت تقدم الهمس الفني البليغ الذي يقول الكثير دون أن تسمع لها صوتًا!!
عاشت «سناء جميل» بوجه واحد فقط بينما الحياة الفنية تحتاج إلي أكثر من وجه، أغلب الفنانين يقولون شيئاً ويمارسون شيئاً آخر.. عملهم بالتمثيل يجعلهم ينتقلون من الاستديو إلي بيوتهم بشخصيات أخري ليست بالطبع من فرط معايشة الشخصية الدرامية التي يؤدونها، ولكن لأن الوسط الفني يفضل النفاق والكذب والإطراء الزائد فهم يمثلون 24 ساعة يومياً داخل وخارج الاستوديو.. غير مسموح بكلمة صادقة لا تضع اعتبارات المصلحة فوق أي اعتبار، لم تكن «سناء جميل» تخجل من أن تذكر هذه الواقعة، فلقد بدأت المشوار في القاهرة قادمة من الصعيد بلا أي سند سوي موهبتها، ولكن كيف تستطيع أن تواجه الحياة بلا أموال ولو قليلة؟ وفي البداية لم تجد سوي أن تبيع لأحد المحال مفارش كانت تبرع في حياكتها وكان لديها اعتزاز خاص بما تنسجه، فهي تعتبرها جزءًا عزيزًا منها ولهذا قبل أن تبيعه تكتب عليه أول حرفين من اسمها S.G وكانت يوماً هي وزوجها الأستاذ «لويس جريس» في زيارة لبيت الأستاذ «إحسان عبد القدوس» وأثناء تناول العشاء لاحظت «سناء جميل» أن مفرش المائدة يحمل توقيعها وروت الحكاية لإحسان عبد القدوس وللسيدة زوجته، فما كان منهما سوي أن أصرا في نهاية الزيارة علي أن تصطحب معها هذا المفرش!!
كانت «سناء» تعشق الصدق في الإبداع وفي الحياة فهي لا يمكن أن تقف أمام الكاميرا أو علي المسرح لتعبر عن إحساسها ثم يتخلي عنها الصدق خارج حدود الاستوديو أو خشبة المسرح، وللمرة الثانية اصطدمت بقانون الوسط الفني الذي يضع خارج الخط أي فنان لا يجيد قواعد اللعب والتزويق والتجميل أغضبت آراؤها الكثيرين وجرحهم صدقها الذي يتجاوز المسموح والمباح لكنها أرادت أن تظل «سناء جميل».. عندما تنظر للمرأة تحترم تاريخها لا تشعر لحظة أنها تنازلت، صادرت كلمة الحق من أن تنطق بها وكأنها تردد مقولة جبران خليل جبران «للحق صوتان صوت يسمعه وصوت ينطق به».. لم تقيدها المصالح التي تتحول إلي معادلات دائمة في الوسط الفني.. من المؤكد أنها دفعت الثمن مرتين لأنها أرادت الصدق الفني والصدق الإنساني.. نعم كان يحاول صناع عدد من الأعمال الفنية إقصاء «سناء جميل» وكان بعض النجوم والنجمات يفكرون ألف مرة قبل أن تشاركهم «سناء» البطولة لأنها سوف تسرق دون أن تقصد إحساس الناس بمجرد أن تظهر «سناء» فإن العين تتابعها، ومن الصعب جداً أن تري غيرها أما القلب فلا يسمح بالدخول لأحد سواها.. كانت بصدقها ستفضح زيفهم وبريقهم الكاذب وكثيراً ما كان يتردد اسمها في أعمال فنية ثم في اللحظات الأخيرة يرنو الصمت وكأن شيئاً لم يكن، ورغم ذلك كانت «سناء» قادرة علي أن تبرق، تدخل من هذا النفق الضيق الذي يشبه ثقب الإبرة وكان عليها أن تقتنص القليل المتاح أمامها لتشع من خلاله نوراً لا يخبو وميضه، كنا نري شعاع شمس يتم تكثيفه ليخرج من ثقب إبرة.. «سناء» شاعرة في أدائها تكتب أبياتاً وتؤدي أدواراً تسمو بالدور الدرامي فنجد أنفسنا وقد حلقنا معها.. لم تمارس الأمومة بالمعني المباشر ولكنها كانت هي الأم في عطائها أتذكر أننا في عيد الأم كنت أقدم حفلاً للعمال في «روز اليوسف» وتوزع شهادات محو الأمية ووجدنا أن الأم هي «سناء جميل» وجاءت للعمال.. واكتملت القصيدة «قصيدة الحب».. كتبت البيت الأخير عندما ودعناها في الكنيسة المرقصية يوم 22 ديسمبر 2002، عشرات من فناني مصر ومئات من أفراد الشعب ظهروا في ساحة الكنيسة وعندما ضاق بهم المكان وقفوا جميعاً في الشارع الرئيسي يودعونها.. كانت «سناء» لا تريد لا من الدولة أو الأفراد أن يتكبدوا مشقة العلاج ومصاريفه، ولهذا كما قال لي أستاذي الكاتب الكبير «لويس جريس» إن «سناء» حرصت في آخر 20 عاماً من عمرها علي أن تستقطع جزءاً من أجرها لتودعه في البنك تحت بند العلاج ولهذا عندما اشتد بها المرض لم تطلب شيئاً من أحد ولا من الدولة وكان حساب الوديعة هو بالضبط حساب المستشفي الخاص الذي عولجت فيه «سناء» علي نفقة «سناء»!!
عندما زرت «سناء جميل» في المستشفي قبل أسبوع واحد من رحيلها وبعد أن قبلتها في جبينها وعلي يدها قالت لي «خللي أمك تدعيلي في كل صلاة».. وفي كل صلاة أستمع إلي صوت والدتي وهي تدعو إلي «سناء جميل» بالرحمة والمغفرة وأن يسكنها الله فسيح جناته!!
كانت وصيتها قبل وفاتها أن يكتب في نعيها في «الأهرام» قريبة ونسيبة كل المصريين.. وهكذا كتبت الأهرام في صفحة الوفيات «سناء جميل» قريبة ونسيبة كل المصريين، ولم يتضمن النعي كلمة «وحبيبة كل المصريين» لأنها كانت تعيش في حياتها ولا تحمل لهم إلا كل هذا الحب!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.