اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه.. يبدو أنني رددت هذا الدعاء كثيراً حتى استجابت السماء، وصار بمقدوري تمييز أكاذيب الإعلام المصري بمنتهى البساطة والسهولة واليسر.. لا يستغرق الأمر مني لحظة واحدة كي أقرر بقلب مطمئن ويقين مستقر أن أياً ممن يتصل بالبرامج الأمنية المخابراتية على تليفزيون الحزب الوطني وأفرعه في القنوات الخاصة، مدعياً أنه متظاهر تائب، وداعياً زملاءه بميدان التحرير للرجوع إلى رشدهم وإبداء أسفهم وإعلان ندمهم، هو مأجور ومنتفع وألعوبة.. لا أقول ذلك لاختلافي معه فيما يقول شكلاً ومضموناً، أو لشعوري بالغثيان كلما استمعت لعباراته المعادة، مصحوبة بنحيب وعويل مثير للاشمئزاز أملاً في استرضاء "بابا مبارك"، الذي يشعر بالمرارة من جحود أبنائه.. ولكن لأنني إلى جانب ممارستي الصحافة أعمل بالتأليف والإخراج، ولا يعجزني أن أفرق بين القناع الأبله المزيف والوجه الحقيقي.. وأن أترجم في أصوات هؤلاء الكومبارس شفرة الخداع والكذب، وأستشعر من تكلفهم في الأداء والتشخيص مقدار التزامهم الحرفي بسيناريوهات معدة سلفاً، تسلك نفس الخط الدرامي، الذي يبدأ بزعم المتصل أنه عاد للتو من ميدان التحرير، ومعه الآلاف ممن انتبهوا فجأة للمؤامرة التي تحاك ضدهم، داخلياً من الإخوان وأحزاب المعارضة العميلة، وخارجياً من إسرائيل وحماس وإيران.. وأنهم أعادوا النظر في بيان الرئيس المليء بالشجون، وأدركوا أنه على حق، وأن مصر لا تعيش بدونه في أمان، وإذا كنا قد صبرنا ثلاثين عاماً، فلم لا نصبر ستة أشهر، وأن مطالب المتظاهرين قد تحققت بالفعل عبر القرارات التصحيحية التي أصدرها الرئيس، وأن مقامه وسنه يستحقان من المتظاهرين الشبان توقيراً واحتراماً لا تطاولاً واستخفافاً، على هذا النحو الذي يجري في المظاهرات منذ الثلاثاء قبل الماضي.. وأن رحيل الرئيس ينبغي أن يكون مدروساً وتدريجياً، ويوفر له التكريم اللائق، وأن سمعة مصر تداس وتمتهن أمام العالم مع كل يوم يصر فيه المتظاهرون على البقاء في ميدان التحرير، وترديد الهتافات المعادية للرئيس.. ثم ما يلبث المتصل أن يوجه خطابه للرئيس مبارك، متوسلاً أن يقبل اعتذاره، وسرعان ما يبكي المتصل، ويرتفع صراخه، وهو يردد: أنا آسف يا ريس.. سامحني يا ريس.. لكنني أعترف بأن سيناريست هذه الاتصالات ليس بهذه النمطية طوال الوقت، فأحياناً ما يدس متصلين لأداء أدوار مستوحاة من قصص المخابرات في الأعمال البوليسية، مثل مسلسل "رأفت الهجان"، و"دموع في عيون وقحة".. حيث يروون قصصاً طريفة وبلهاء عن محاولات تدريبهم من قبل الموساد الإسرائيلي في الولاياتالمتحدة وقطر على فن القيام بانقلاب على الدولة!! وتلقي قياداتهم خمسين ألف دولار لكل منهم!! صادف "سيد علي" اتصالاً من هذا النوع في برنامجه "48 ساعة" على قناة المحور المتواطئة مع النظام.. ولولا ثقتي في فطنة وذكاء "سيد" لتصورت أنه صدق المتصلة الساذجة بالفعل، من انفعاله المبالغ فيه وتظاهره بالذهول مما قالته، حيث استوقفها، وطلب منها بجدية مصطنعة تكرار شهادتها "المضحكة"، ثم ذكّرها (قبل أن تفسد الخلطة بالكامل) بأن عليها ألا تكشف عن شخصيتها، قائلاً: طبعاً أنتِ لن تذكري اسمك حتى لا يتعقبك الأمن!! فأجابت بخليط من اللغة العربية والإنجليزية الركيكة بأنها لا تخشى الأمن، ولكن تخشى زملاءها الذين تلقوا معها هذه التدريبات، كما أنها تخشى انتقام إسرائيل!! وأن ما أيقظ ضميرها هو خطاب "السيد الرئيس"، الذي دفعها للبكاء، ولأن تعتذر له، وتقول له: أنا آسفة يا بابا..!! وبمنتهى الحماس، وعد "سيد" وزميلته "هناء" بأن يستضيفا هذه الفتاة في الاستوديو لاستعراض وثائقها ومناقشة شهادتها بالتفصيل، وهو ما حدث بالفعل في اليوم التالي، حيث ظهرت المتظاهرة التائبة في الاستوديو، ولكن مع تشويه اللقطة للإيحاء والتظاهر بأنها في خطر، وأن البرنامج مشكوراً يحافظ على سلامتها.. وكأن "سيد" لا يعرف أن من يقوم على تنسيق الاتصالات في غرف التحكم بمعظم هذه البرامج منذ اشتعلت ثورة التحرير، هم من رجال الأمن.. وأنهم هم من جلبوا هذه الفتاة، على الأرجح من خلال ريجيسير رخيص، يصلح لتسكين الأدوار في فيلم إباحي على الأكثر.. لقد وضع "سيد علي" خبرته الصحفية وضميره المهني والإنساني على المحك بتورطه في هذه المسرحية، التي تدينه هو وزميلته أكثر مما تدين الفتاة المأجورة، أو من استأجرها.. وبتحوله إلى معول هدم في يد زبانية الحزب الوطني، الذين يسعون بشتى الطرق لتخريب أحلام الشباب وإبادة مستقبلهم.. هذا هو جانب فقط مما يفعله إعلام الحزب الوطني لتخوين المتظاهرين الشرفاء، وحشد الرأي العام ضدهم، والنيل من عزيمتهم، وزعزعة صمودهم وإرادتهم.. استأجر عشرات الشبان والفتيات لتقمص أدوار قيادية في حركة 25 يناير، ووزعهم على البرامج التلقينية (الحوارية سابقاً)، للزعم بأنهم يدعون لإنهاء الاعتصام، والاكتفاء بما تحقق، والاقتناع بوجهة نظر النظام في ثوبه الجديد.. والحقيقة التي يعرفها صفوت الشريف وأنس والفقي وغيرهما من خبراء الإعلام التحريضي في دولة مبارك، أن النظام يتهاوى، وأن العد التنازلي لسقوطه في مزبلة التاريخ قد بدأ بالفعل، وأن شباب ميدان التحرير متماسكون، وصامدون، وأنهم أشرف شباب الأرض، الذي لا يباع ولا يشترى، ومَن أهّله لإحياء كرامة ووعي وإرادة المصريين، بل والعرب جميعاً، سيؤهله بالتأكيد لكشف المؤامرات، وإحباطها، والحفاظ على طهارة الثورة، ونبل أهدافها، وصمود أبنائها.. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.. آمين!