29 عاماً بلا أحلام محمد حسني مبارك في بدايات حكم الرئيس مبارك سألته مجلة «المجلة» عام 84 عن أحلامه فقال: «الأحلام دي بالليل وإحنا نايمين أما النهار فهو مخصص للشغل فقط»، وبعدها بثمانية عشر عاماً سألته مجلة «أكتوبر» عن أمنياته للعام الجديد في يناير 2002 فقال: «أنا لا أضيع وقتي في الأحلام وأفكر في حدود الممكن وأمنياتي محكومة بالظروف». فهل يمكن لشعب أن يعيش ثلث قرن بلا أحلام أم كان علي الرئيس أن يضيع بعضاً من وقته ووقتنا في أحلام النهار ويتحلي بقليل من الخيال؛ لأن أمة لديها حلم ما كانت لتقبل بثمانية وعشرين عاماً من «الجري في المكان»، إلا ما شاء ربي من انقلابات عنيفة تديرها حسابات المصالح ورغبات الخارج وهو ما يظهر بشكل واضح في متابعة مواقف الرئيس وتغيراتها خلال حكمه المديد. هل تذكر أول مرة قرأت فيها حواراً صحفيا للرئيس مبارك؟ إذا كانت إجابتك هذا السؤال بنعم فعمرك الآن أربعون عاماً علي الأقل، لكن غالبية المصريين سيجيبون عن هذا السؤال بلا؛ لأنهم فتحوا أعينهم علي الدنيا في ولاياته العديدة.. وجوده في الحكم سابق علي وجودهم في الحياة. كيف كانت مصر في بدايات عهد مبارك وكيف تطورت مواقفه وسياساته مع الزمن؟ بحثاً وراء هذا الماضي قررنا أن نستعين بالرئيس نفسه؛ لنحصل علي رواية شبه رسمية لسير الحوادث في بر مصر طوال عهد مبارك، بلسان مبارك. وتجنباً لمتاهات الخطب الرسمية المعدة سلفاً والتي كان التعامل معها ليصبح أمراً فوق طاقة البشر؛ لجأنا إلي أرشيف الهيئة العامة للاستعلامات الذي يضم نصوص كل الحوارات الصحفية للرئيس منذ أكتوبر 1981 وحتي الآن، وهذا يعني ما يقارب 2000 حوار ومقابلة أجراها الرئيس مع صحف وتليفزيونات داخل مصر وخارجها، قرأناها بمنظور شامل لولايات الرئيس الخمس، في محاولة لهزيمة فعل الزمن وإعادة الاعتبار للذاكرة. نعرض هنا لتطور مواقف الرئيس مبارك مع الوقت حول مختلف القضايا في صيغة حوار صحفي ممتد لم نتدخل فيه، بل جمعنا فقط تصريحاته ومواقفه ذات الدلالة من حوارات سبق أن أجراها بالفعل، وقسمناها بحسب الموضوع مع الإشارة إلي تاريخ ومكان نشر كل تصريح. يتحدث الرئيس مبارك وقيادات حزبه بكثير من الثقة هذه الأيام عن إنجازاتهم في تنفيذ البرنامج الانتخابي للرئيس، ويحلو لجمال مبارك أن ينتشي مزهواً بالأرقام والإحصاءات عن التقدم الذي تحقق منذ البداية في 2005.. لكن من قال إن البداية كانت في 2005 وكيف أمكن لجماعة «الوطني» أن يسقطوا من حساب التاريخ ربع قرن من عمر هذا الشعب لم يكن فيه برنامج انتخابي ولا انتخابات من أصله؟ يراقب الناس في سائر دول العالم الرؤساء والأحزاب والسياسات خلال فترات زمنية محددة.. يقيمون الإنجاز المتحقق في حياتهم خلالها ليقرروا ما إذا كانوا سينتخبون الفريق السياسي نفسه لفترة جديدة أم سيتجهون إلي أحد منافسيه، لكن ما العمل إذا شهد رئيس واحد وحزب واحد تعاقب 5 رؤساء أمريكيين و8 رؤساء حكومات إسرائيلية، و12رئيس وزراء إيطالياً، و4 مستشارين ألمان، و4 رؤساء حكومات بريطانية، و3 رؤساء فرنسيين، و3 ملوك سعوديين؟ وفي الداخل تتعاقب الأجيال، فيذهب القدامي إلي جوار الله قبل أن يحصلوا علي فرصة لتقييم الرئيس ومحاسبته، ويأتي الجدد ليجدوه في مكانه دون أن يعلموا ما الذي جاء به وما مسوغات استمراره. صحيح أن حسابات الواقع المصري وموازين القوة فيه الآن تستبعد فكرة المحاسبة من أساسها، حتي إن إعلامياً كبيراً مقرباً من بيت الرئاسة اقترح إقرار قانون يؤمّن «الخروج الآمن» للرئيس من السلطة ويمنحه حصانة مدي الحياة بوصفه «زعيم الأمة»، لكن حديث المستقبل علي هذه الأرض لا يمكن أن يكون حقيقياً وذا جدوي قبل أن نلتفت إلي الخلف قليلاً لنتأكد أننا استوعبنا حقاً دروس الماضي؛ علي الأقل حتي لا نفقد ربع قرن آخر من أعمارنا ما بين قرار الرئيس الجديد بتخصيص موارد البلد خلال السنوات القادمة للبنية التحتية وبناء شبكة الصرف الصحي.. وحديث الرئيس نفسه بعد 29عاماً في مؤتمر الحزب عن الحاجة الملحة لتخصيص 30 مليار جنيه لبناء شبكة الصرف الصحي مرة أخري. فهل رأيتم أمة تنفق 30 عاما من تاريخها تحلم ببناء الكباري وتجديد شبكات الصرف الصحي ثم لا تلبث أن تبدأ في بنائها من جديد وكأننا أمام أسطورة إغريقية تم تمصيرها لنستبدل صخرة سيزيف بالمشروع القومي للمجاري. نري في هذا الملف الوجه الآخر للرئيس مبارك، ونسمعه يتحدث كما لم يتحدث من قبل، مواقف تبدلت مع الزمن، وأخري ظل متمسكاً بها حتي النهاية، اعتراف بهشاشة الحزب الوطني وانقسامه إلي عشرات الأحزاب إذا تخلي مبارك عن رئاسته وحديث مبالغ فيه عن أنه حزب الأغلبية الكاسحة، التوريث الذي تحدث مبارك عنه للمرة الأولي عام 89 أي عندما كان عمر جمال 26 عاماً، والقطاع العام الذي كان الضمان القوي للاقتصاد.. ثم أصبح عبئاً عليه، نقابل الرئيس المُكره والمضطر لقبول الرئاسة خوفاً من «هياج» الناس إذا تنحي.. الذي يعلن طول الوقت رغبته في الراحة لكنه شبّه بعدها من قالوا له كفاية بالأراجوزات. نري كيف كان موقف الرئيس واضحاً ضد التعددية وحرية إنشاء الأحزاب؛ لأنها ستمزق البلد وتنهي نظام «حزب الأغلبية»، ازدراء معلن للآخر من مبارك الذي يقول ببساطة إنه لا يقرأ صحف معارضيه وامتنع عن لقائهم بسبب «فظاظتهم»، ومفهوم جديد للديمقراطية يري تطبيقها الأمثل في السماح بمعارضة إنشاء الكباري، رفض واضح لقانون مكافحة الإرهاب الذي - ويا للعجب- سيحول الطوارئ الاستثنائية الكريهة إلي وضع دائم. نطالع اعتراف الرئيس عام 93 بضلوع جمال مبارك في عمليات جرت لشراء ديون مصر وإعادة بيعها، ومن الطريف أن هذا الحوار أشار إليه مجدي أحمد حسين -أمين عام حزب العمل المجمد، المحبوس حالياً بعد محاكمة عسكرية- في أحد مقالاته، لكننا لم نجد أثراً لهذا الحوار في أرشيف الهيئة العامة للاستعلامات التي يبدو أنها أخفته عمداً؛ لأن كلام الرئيس كان خاصاً بمكرم محمد أحمد ونُشر خطأ - بحسب رواية مجدي حسين - لكننا وجدنا نسخة من الحوار في أرشيف المجلس الأعلي للصحافة. نتابع أيضاً تطور موقف الرئيس من تعديل المادة 77 التي تحدث عن حماسه لتغييرها في البداية، وانتهي إلي القول بأنه لا يجب حرمان الشعب من رئيس يريدون استمراره، إصراره علي الاستفتاء ورفض الانتخاب المباشر ثم اعترافه في 2005 بأن الشعب المصري لم يختر رئيسه أبداً، موقفه القديم من تخصيص كوتة للمرأة في مجلس الشعب الأمر الذي اعتبره إخلالا بتكافؤ الفرص ومخالفة للدستور، وها نحن نشهد نهاية العام الجاري أول انتخابات تخصص فيها مقاعد للمرأة. وسواها من المواقف في قضايا أثرت علي حياة كل مصري، ورغم أن الرئيس يؤكد دوماً عشقه للاستقرار الأبدي ورفضه للتغيير إلا أن كل شيء تقريباً قد تغير، اللهم إلا موقفه من المعارضة ورفضه لتداول السلطة. بعد 29 عاماً من «دفع عجلة التنمية» وخطط «الإصلاح الاقتصادي» استخدم الرئيس في مؤتمر الحزب الوطني الأخير عبارة «الأغلبية الساحقة لشعبنا من الفقراء».. شكراً علي التسليم بالأمر الواقع.. ولكن ألم يحن الوقت للاعتراف بأن مصر تستحق حكاماً أفضل؟ ربما كان أمراً محموداً أن يراجع المرء مواقفه ويطور أفكاره بين الحين والآخر.. لكن غير المقبول أن تتحول الشعوب إلي فئران تجارب يقرر مصيرها مزاج الحاكم وهواه، يعبر بهم من اليسار إلي اليمين وبالعكس دون أن يقدم أي تفسير أو يطلب تفويضاً جديداً في الحالتين، ودون أن يفسح الطريق لسواه إذا ثبت خطأ أفكاره.. فهو رجل الاشتراكية وخبير السوق الحرة.. زعيم الحزب الذي يحتكر السلطة وداعية الحريات.. المترفع عن الحكم والباقي حتي آخر نفس.. ضد الطوارئ ومع الطوارئ.. يرفض قانون الإرهاب ثم يضعه جزءا أساسيا في برنامجه.. يحقر المطالبين بكوتة للمرأة ثم لا يلبث أن يطالب بها ويقرها.. يؤيد الاستفتاء ويقول شعراً في الانتخاب المباشر معلنا أن علي الشعب أن يختار رئيسه للمرة الأولي.. المهم أن يبقي الكرسي وكفي.