شاب قروى ساذج، لا يتحمل عقله سوى أن يضع أمه وحقله فيه، يذهب إلى التجنيد.. مجندا فى المعتقل، وتتم عملية غسيل المخ المعتادة التى لم تستغرق ثوان فى مخ فارغ بالطبيعة، ليؤمن بعدها بأن هؤلاء المعتقلين _الشرفاء حقيقة_ هم أعداء الوطن، وأن واجبه هو أن يعذبهم ويهينهم ويقتلهم، ويذهب إلى قريته ليتباهى بين أصدقائه السذج بأنه "تلاتة بالله العظيم أنا باحارب أعداء الوطن" حتى يكتشف الحقيقة عندما يرى ابن قريته المثقف الطيب واحدا من هؤلاء الأعداء داخل المعتقل، فيصرخ معترضا فى "توفيق شركس" قائد المعتقل: "حسين أفندى ابن الحاج وهدان لا يمكن يكون من الأعداء". هذا هو ملخص لفيلم "البريء" للرائع أحمد زكى، واحد من تلك الأفلام التى يكتشف صانعوها ورقباؤها _إذ فجأة_ أن العصر السابق كان عصر أسود من السواد وأن الرئيس السابق هو قائد قوات التعذيب الدولية، وأنهم بكل شجاعة جهروا بكل آرائهم الغاضبة المعارضة ولكن _ياللصدفة_ بعد موت الرئيس وبعد انتهاء عصره! لا تتعجب من سذاجة أحمد سبع الليل ولا تقلب شفاهك امتعاضا عندما تشاهد إصراره وغلّه وهو يقتل أحد المعتقلين أثناء هروبه، ولا تنظر إليه من علٍ وهو يتدنّى تحت أقدام "توفيق شركس" قائد المعتقل ليحصل على دبورة أو ترقية، فالمَشاهد مهما بلغت فظاعتها فهى مشاهد سينما خيالية، ولكن يمكنك أن تتعجب وتمتعض من كل من يمثِّل دور أحمد سبع الليل بجدارة على أرض الواقع. جينات أحمد سبع الليل تلهو وتعلو على قريناتها داخل جينات كل فرد من أفراد هذا الشعب، الكل بريء، الكل يعتقد تمام الاعتقاد أنه هو الوحيد الذى يعمل لرفعة هذا الوطن، وأنه الوحيد الذى تغلغلت داخله مبادئ الرحمة والعدل وتعاليم الأديان السماوية، الكل يتعرض لعمليات متعاقبة من غسيل المخ ليؤمن بعدها بأنه يحارب أعداء الوطن، وأن من هم على الضفة الأخرى من النهر خونة وجواسيس وعملاء وآبار فساد، وأن من هم على ضفته أتقياء "فاضل لهم اتنين بُنط وينوَّروا".. الكل يحاول ألا يُعمِل عقله فى الأحداث ولا يفكر فى الأسباب والنتائج مكتفيا فقط بالتنفيذ وإطلاق الاحكام ليوفر طاقة عقله وتفكيره فى أشياء أكثر أهمية مثل هل تصلح طريقة 3-5-2 ليلعب لها الأهلى؟ فى الساعة الأولى من العام الجديد خرج علينا أحمد سبع الليل متمنطقا بحزامه الناسف أو راكبا سيارته المفخخة ليفجرها أمام الكنيسة ليقتل بها النساء والأطفال والشيوخ، لا فرق بين قتلى المسلمين وقتلى المسيحيين، لتمتزج دماءهم وتُكوِّن خطا فاصلا دمويا بين المسجد والكنيسة المتقابلين، كل هذا لأنه يؤمن أشد الإيمان أنه يحارب أعداء الوطن، عمليات غسيل المخ أقنعته أن هؤلاء المسيحيين هم أعداء مصر وأعداء الإسلام والخطر القابع تحت جلد الأمة، أو أقنعته _إن كان عدوا خارجيا_ بأن هذا هو السبيل الوحيد لضرب وحدة هذا البلد الصامد ضد الظلم، والمتوحِّد فى أوقات المحنة عبر الأجيال. ومَن أرسل أحمد سبع الليل ليفجر الكنيسة هو أحمد سبع الليل آخر، توالت عليه عمليات غسيل المخ من خلال النوايا المشبوهة والأوامر المغلوطة والتفاسير الفاسدة لدين سمح لم يحرِّم شيئا قدر تحريمه للدم، أو من خلال آليات تنفيذ لا يفهمها ولا يريد أن يفهمها بقدر إصراره على تنفيذها خير تنفيذ لتعمّ الفوضى هذا البلد. هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ بالطبع لا.. فنتيجة لهذا التطرف خرج علينا العديد من أحمد سبع الليل.. متطرفون مسيحيون.. أقنعهم غسيل المخ بأن كل ما يشغل بال المسلمين هو تصفيتهم والقضاء على المسيحية وإخراجهم من وطنهم الذى يعتقدون أنهم أصحابه الأصليون وأن المسلمين ما هم إلا ضيوف ثقيلو الظل، وبدلا من أن تتجه أيديهم إلى أيدى المسلمين لتتوحد ضد موجات الإرهاب والتطرف والفكر المنغلق أيا كان مصدرها ودينها، امتدت هذه الأيدى للنيل من أقرب مسجد ومن أقرب مسلم فى محيطها، ليتحول الموقف من متطرف ضد مسيحيين إلى كل المسلمين ضد كل المسيحيين، فيخسر الطرفان ويربح صاحب القنبلة! حاول أن تعصر على نفسك "قفص لمون" وشاهد مؤتمر الحزب الوطنى الأخير، واستمتع برؤية عشرات الوجوه من أحمد سبع الليل المتسترة خلف أقنعة من قيادات الحزب، كل منهم يقسم أشد القسم أن معدل التنمية تصاعد، ومعدل الرخاء تعاظم، ومعدل الحرية تنامى، وأن من لا يؤمن بهذا هو واحد من الخونة المعارضين الذين لا يحبون الخير لهذا الوطن، وأن كبتهم لأحرار هذا البلد هو مصداقا لقناعتهم "تلاتة بالله العظيم احنا بنحارب أعداء الوطن".. لا يرون سوى مَن فى محيطهم ومِن خلف زجاجهم الواقى، وكل من خارج هذا المحيط هم أعداء الوطن! والمعارضة أيضا _إلا فيما ندر_ يمسك بخيوطها العديد من أحمد سبع الليل، لا همّ لكل منهم سوى إبراز الزعامة والتأكيد على كونه الوحيد الذى يعمل لصالح مصر، وأن من سواه هم خونة ومأجورون. فتجد الوفد فى صدام مع التجمع، وكلاهما يختلف مع الإخوان، التى تختلف بدورها مع الغد، ومعظمهم يختلف مع الناصرى، وكلهم فى صدام مع الوطنى، كل منهم يصر على أنه "بريء" وأنه "تلاتة بالله العظيم بيحارب أعداء الوطن"، رغم أننا لا نعرف عنهم شيئا سوى صراعهم فى انتخابات أحزابهم، وإفساد المعارضة الحقيقية بمعارضة هشة تختفى كغثاء السيل أمام أول اتصال تليفونى من رقم غير معرّف! والآن نصل إلى أكبر أحمد سبع الليل فى المنظومة كلها، الشعب نفسه، فردا فردا، كل منا يقتنع تمام الاقتناع أنه يعمل لصالح هذا الوطن وأنه بريء مظلوم مضطهد فى مقابل وحش الحكومة الظالم المفترى الفاسد، نجيد تقسيم الناس بناء على توجهاتنا، فإذا سرق معارض فبالتأكيد هذا من تدبير الدولة، وإذا سرق غيره فبالتأكيد هذا من رموز الفساد والسلطة، يرتشى كل منا ويسرق ويهمل ويغش ويفترى على غيره الأضعف، وهذا كله بدعوى أنه "بريء" وأن هذا رد فعل لسياسات الحكومة وظروف المجتمع، تتطاول ألسنتنا ودعواتنا على كل مسئول من أعلاهم إلى أدناهم دون خوف ولا وجل ما دمنا نناضل على الكيبورد فى المساء، ونذهب صباحا للعمل لنتحمل ظلم وسخافات المديرين، وتعسفات رؤساء العمل دون أن يخطر ببالنا أن نواجه أو نعترض، ونتحمل إهانات أى أمين شرطة فى الشارع باستسلام وخنوع، لنقبع ليلا نناضل من جديد ونشتم فى الجميع على الكيبورد! تداخلت الرؤى وتعقدت الأمور، ليصبح الواقع كما هو عليه الآن.. مجموعات من البشر داخل الوطن الواحد، تعمل فى تضاد وتنافر مستمر، كل منها يعمل فى واد، مقتنعا أنه المناضل الوحيد وأن من حوله كفرة أو خائنون أو من أعداء الوطن، لتنطبق صورة أحمد سبع الليل على كل أفراد المجموعات، لنصبح فى النهاية 80 مليون "أحمد سبع الليل" ضد 80 مليون "توفيق شركس" داخل معتقل واحد، دون أن نعرف حقيقة من هو.. البريء؟