في 6 و7 يونيو 1967 حلقت أربع طائرات أمريكية فوق سيناء وعندما استفسرت مصر عن السبب جاءنا الرد عن طريق الاتحاد السوفيتي محمد حسنين هيكل واصل الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، سرد تجربته الثرية بين السياسة والصحافة الممتدة لسنوات طويلة عبر برنامج «مع هيكل» الذي يذاع أسبوعيا علي قناة الجزيرة، وفي حلقة أمس الأول قال هيكل إنه في أعقاب صدمة 1967 مباشرة وفي الأسابيع التي تلتها بدا أن العقدة الكبري في الوضع الدولي، لأنه لم يكن أكثر من «رؤي بعيدة موجودة عند حافة الأفق ولكن ملامحها غير ظاهرة»، موضحا: «كنا في منطقة بها استقطاب بين قوتين الاتحاد السوفيتي الذي يساندنا بشكل أو بآخر بشكل كبير وهناك قوة أخري لديها مصالح معنا هائلة ولكنها تساند إسرائيل لأنها متصورة أن إسرائيل تستطيع ضبط إيقاع المنطقة بالقوة بين القوتين هناك أوروبا كطرف آخر، ولكن التأثير المباشر علي ميدان القتال بين القوتين، خصوصا أن القوتين كل منهما مورد سلاح لطرف من أطراف المعركة الاتحاد السوفيتي لمصر وأمريكا لإسرائيل، ولا تستطيع أمريكا لا اليوم ولا البارحة أن تعطي السلاح لأي طرف عربي يحارب إسرائيل». ويضيف: «السلاح الموجود في ذلك الوقت هو السلاح السوفيتي، وهو لم يكن متاحًا بهذه الطريقة المتصورة لأنه كان محكومًا بسياسات الدولة السوفيتية». ويفسر هيكل العلاقة بين مصر والاتحاد السوفيتي وتداعيات ذلك علي نكسة 1967 قائلا: «من بعض مخاطر ما تعرضنا له عام 1967 أننا دخلنا الحرب ولم نكن نعلم أنه تحت هذه القوة السوفيتية هناك أشياء أخري لم نكن متنبهين لها بالقدر الكافي، كانت هناك متناقضات حينما نري العسكريين يشجعون بما هو أكثر مما هو متوقع وآخرون يحذرون بما هو أكثر مما هو واضح لنا في الخطوات والسياسات ولكن ما غاب عنا في هذا الوقت أن كل هذا وراءه شيء في بنيان الدولة السوفيتية فضلاً عن الصراعات التي دخلت فيها بعد الحرب العالمية الثانية... فنحن كنا أمام بلد قوي ولكن الإشارات القادمة منه لم نحسن ترجمتها، وبالتالي لم نكن متنبهين لها بالقدر الكافي». ويعود هيكل إلي تلك السنوات قائلا: «في يوم 6 و7 أيام الانسحاب قامت 4 طائرات أمريكية بالتحليق فوق سيناء وقامت بعملية مسح إلي أن هبطت إلي حاملة طائرات بالبحر الأبيض المتوسط، وعندما طلبت مصر إيضاحًا حول تلك الطائرات لم تحصل علي ذلك من أمريكا بل جاء علي لسان كرسيجن في رسالة إلي جمال عبدالناصر ألا تقلق مصر من الطائرات الأمريكية التي عبرت لأن هناك تحرشات إسرائيلية في البحر الأبيض المتوسط ويريدون أن يكشفوها، ولكن الغريب أن يبعث الأمريكان برسالة إلي مصر عن طريق الاتحاد السوفيتي». واعتبر هكيل أنه في ذلك الوقت قد ظهر جليا أن هناك عملية تشجيع أمريكي بشكل ما وتراجع سوفيتي بشكل آخر، وهذا ما أنهي الحرب الباردة، فهناك طرف لديه موارد هائلة وطرف آخر اكتشفنا أن ما لديه لا يزيد علي ثلث الموارد الأمريكية، وهو ما يعني أن هناك عدم تكافؤ في القوي ولكن قوة الردع المتبادلة غطت علي الكثير من الحقائق وخلقت نوعا من المساواة المؤقتة التي لا يعتمد عليها علي المدي الطويل، وطالما أن الحرب النووية مستبعدة بالكامل، إذن فالموازين يجب مراعاتها. ويعود هيكل للحديث عن الرئيس عبدالناصر فيقول: «في ذلك الوقت كان عبدالناصر منهمكًا في التعلم من جديد، وكان يدون كل ما يتعلمه في ملاحظات، وهناك كم كبير جدا من الأوراق التي كتبها بخط يده كملاحظات تعلم منها، وفي هذا الوقت أجري مشاورات مطولة في الصين، ومع غاندي في الهند وابنته وغيرهما، بدأ يسمع عن المتناقضات في الاتحاد السوفيتي، وفي مصر دارت مناقشات علي أوسع حد، جمال عبدالناصر كان مستعدا لأن يري كل من يشعر أن لديه الجديد. وهكذا بدأ يتبلور خط مقتضاه أن عبدالناصر يدرك أن الحرب الباردة ستنتهي بفوز أمريكي ولكن أيضًا ستخرج متعبة من الحرب، ولن تنتهي الحرب الباردة مرة واحدة ولكنها ستأخذ سنوات حتي تنتهي آثارها وتتحدد فيها الملامح الجديدة وكانت قضية عبدالناصر كيف نتحرك لنتأكد أن جميع طلباتنا في المعركة جاهزة وفي مكانها قبل أن تنتهي فترة السماح الدولي الذي ترضاه هذه التناقضات، خاصة أن الاستراتيجية السوفيتية كانت تخطط لأن تكون المقاومة المصرية هي الأساس وأنه يجب أن يتم بناء جبهة شرقية حتي يتحول الصراع من مصري - إسرائيلي إلي عربي - إسرائيلي وإن كانت فلسطين هي محوره، وكيف يمكن أن نرفع درجة الصراع بأي قدر إلي المستوي الدولي، وكيف نشعر الاتحاد السوفيتي أن ما نقاتل فيه ومن أجله يمسه هو أيضا وأنها قضية أمنه وهنا قلت له إن هذه السياسة بتلك المرونة أشبه بالمشي علي حد السيف وأعتقد أن هذه الفترة أصعب فترة مرت علي الدبلوماسية المصرية والسياسة المصرية. وكدأبه الصحفي عاد هيكل إلي المستندات والوثائق ليقرأ منها التاريخ ويقول: «أمامي بعض الوثائق الخاصة بتلك المرحلة، أول رسالة هي من مراد غانم سفيرنا في موسكو في ذلك الحين يقول إن السوفيت يشعرون بقلق شديد لأن هناك تصريحات في صحف القاهرة وغيرها تحاول إلصاق تهم بعينها بهم وتحوم حول اشتراكهم مع العدو - الأمريكان - ويقول السفير: «مع اعترافي أن هناك مجالاً للمشاعر ولكني أوصي بوجود سلوك موضوعي في هذه الأيام ولا شك أنه من الأهمية بمكان التعاون مع الاتحاد السوفيتي تعاونا تاما وأنقل لكم تأكيدهم أنهم جادون الآن علي حل المشكلة وعلي استعداد للتعاون معنا، حينها تلقي سفيرنا في موسكو ردًا من القاهرة يقول له اهدأ واصبر ولا داعي للتعجل». ثم يتحدث هيكل عن الدور العربي في جمع السلاح بعد حرب يونيو: «الرئيس العراقي عبدالسلام عارف و الرئيس الجزائري بومدين ذهبا للحديث مع السوفيت حول تجهيز مصر بالسلاح بشكل أقوي، والرئيس عارف كان طيبا وخجولاً وهادئًا، في حين كان بومدين ثوريًا لأنه كان قائد جيش التحرير، لذلك قال للسوفيت كلامًا لم يستطع أحد في ذلك الوقت أن يقوله وأخرج شيكًا بمائة مليون جنيه إسترليني وقال: «إذا كانت الأزمة في الأموال ودفع أقساط ثمن السلاح فهذا ثمن السلاح، فقال له كرسيجن إنهم أعطوا مصر أفضل الأسلحة في المعركة، فرد عليه بومدين وقال «يا سيادة الرئيس نحن قوم لا نفقه سوي قيادة الجمال، تعالوا علمونا ما عندكم ومدونا بخبراء الطيران والحرب»، وهكذا فإن الطرف المصري في ذلك الوقت التزم الصمت وترك أطرافًا عربية تطالب بمطالبه وترد عنه. ويواصل هيكل: «بعدها جاءت رسالة من الملحق العسكري في موسكو يقول إن هناك وفدا عسكريا روسيا في طريقه إلي مصر لعمل محادثات علي أعلي مستوي، وهو ما دفع الفريق فوزي إلي مقابلة «عبد الناصر» الذي قال له: دعنا نستمع لهم ولا تظهر أننا نحتاج إليهم، لأننا لم نذهب إليهم في حالة احتياج». وكان الوفد السوفيتي علي أعلي مستوي ويضم رئيس أركان حرب، ونحن كنا نحتاج عسكريين، ولم يكن لجيلنا خبرات في ذلك الوقت، والبعض يتخيل أن الخيارات في السياسة سهلة ولكنها في الحقيقة مليئة بالقيود، وعند قراءتي محضر الاجتماع عرفت أن الفريق محمد فوزي رحب بهم وسأل عن سبب زيارتهم لمصر، فكان رد رئيس أركان حرب السوفيتي أن السبب هو رفع كفاءة القوات المسحلة وتوفير الطلبات في أي وقت، وطلب أن يري الميدان هو ومساعدوه والوقوف علي نقاط القوة والضعف، وبدأ اللواء فوزي يقول لهم إنهم جزء كبير مما حدث، فقالوا وفقاً لرأيهم إنه يجب الدعم بقوات الدفاع الجوي والدفاع المدني وبدأ الحديث عن تجربة فيتنام، وكان الاتحاد السوفيتي جاهزا لكي يقدم ما نطلب من أسلحة... وهكذا باستمرار كانت هناك مفاوضات تقطع وعودًا، ولكن إذا تصور أحد أن هذه الوعود كانت تنفذ فهو واهم، وكان المهم في هذا الوقت في مصر هو كيف نستطيع إدارة العلاقة مع الاتحاد السوفيني وسط هذه التناقضات السوفيتية والتأييد الأمريكي لإسرائيل.