في مطلع الستينيات من القرن الماضي كتب الأديب الراحل «توفيق الحكيم» مسرحيته الرائعة «السلطان الحائر» والتي يحكي فيها أن واحداً من سلاطين المماليك علم أن الناس في بلاده يثرثرون أنه لم يزل عبداً لأن سيّده لم يكن قد أعتقه ولهذا فلا يجوز له أن يكون سلطاناً علي شعب من الأحرار إلا إذا نال حريته، ويقع الملك وبطانته في حيرة وارتباك بالغين ما بين استعمال القوة لإخراس الألسنة كما يري الوزير، وبين الاحتكام للقانون وهو ما يعني أن يُعرَض السلطان للبيع في مزاد عام ثم يقوم من يشتريه من المواطنين بعتقه حتي يكتسب حكمه الشرعية اللازمة كما يري قاضي القضاة، وحينما رضخ السلطان «بعد تردد» لحكم القانون كان ذلك لاقتناعه بأن السيف مهما كانت حدته وقسوته قد يمكنه قطع الألسنة ولكنه أبداً لن يغير معتقدات النفوس، وبِيع السلطان في المزاد ففازت به الغانية سيئة السمعة ولكنها رفضت في البداية أن تعتقه كما طُلب منها فأيُّ منطقٍٍ هذا الذي يجبر المشتري علي التخلي عن سلعة اشتراها بعد أن دفع كامل ثمنها؟، وبعد أن تلاعبت الغانية بأركان النظام عادت للموافقة مشترطة أن يقضي السلطان ليلته في بيتها فإذا أذَّن المؤذن لصلاة الفجر وقّّعت وثيقة العتق، وبينما الغانية في البيت تبادل السلطان أطراف الحديث سمعا صوت المؤذن ينادي للصلاة عند منتصف الليل فأدرك السلطان أن رجاله المخلصين قرروا التلاعب بالألفاظ والالتفاف حول العقود حتي لو كان ذلك علي حساب مواقيت الصلاة، ولأن الظرف السياسي الذي كتب فيه الحكيم هذا العمل كان من الصعب أن يتحدث فيه عن ترزية القوانين وعباقرة التفسيرات و«حلالي العقد» فقد اكتفي باعتبار ذلك نوعاً من الوطنية وحبّا للحاكم الزعيم المُلهم بدا كافياً لأن تبادر الغانية بتوقيع وثيقة العتق قبل الموعد فهي ليست أقل حباً للوطن وإخلاصاً للسلطان من أركان نظامه. يبدو أيها السادة أن ذلك العمل الإبداعي الرائع كان هو المرجع القانوني الذي عادت إليه اللجنة الموقرة التي شُكّلت لحل الأزمة التي خلّفها الحكم الصادر ببطلان عقد «مدينتي»، لقد تلمّست اللجنة الحل عند توفيق الحكيم، إذ ماذا يمثل بطلان عقد مدينتي إذا قورن ببطلان مشروعية نظام الحكم السلطاني؟!، لقد توصلت اللجنة إلي أن السبيل الوحيد لحل الأزمة وضمان حقوق حاجزي الوحدات السكنية والجهات المعنيّة بالمشروع والعمال، وأيضاً لعدم السماح بتكرار قبول الطعن عليها مرة ثانية هو تنفيذ حكم محكمة القضاء الإداري ببطلان العقد وسحب الأرض من مجموعة طلعت مصطفي وتسليمها إلي هيئة تنمية المجتمعات العمرانية علي أن تقوم الحكومة متمثلة في رئيس الوزراء بإعادة بيع الأرض مرة ثانية إلي المجموعة بنفس الأسعار السابقة، استغلالاً للثغرة القانونية الوحيدة التي رأتها اللجنة وهي المادة 11 من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 2041 لسنة 2006 والتي تجيز التعامل بالاتفاق المباشر علي العقارات بالبيع أو التأجير أو الترخيص بالانتفاع أو بالاستغلال في حالة الضرورة لتحقيق اعتبارات اجتماعية أو اقتصادية تقتضيها المصلحة العامة. المفترض أيها العقلاء أن تكون مهمّة الحكومة - أيّ حكومة - الحرص علي تطبيق القانون والتنفيذ الدقيق لمقاصده والسعي الجاد لرتق ثغراته كلما ظهرت لا التباهي بالالتفاف حوله واستغلال ثغراته وإعادة تفسير مقاصده حسب الهوي، فالصلاة لا يحين وقتها أبداً مهما أذّن مؤذن السُّلطة قبل موعدها، والحل الذي توصّل إليه الخبراء في أزمتنا هذه يفتح الباب لكثير من الجدل ومزيد من التعقيد ويجعل من الحكم الصادر أوّلَ الأحكام وليس آخرَها فما أيسر التشكيك في حالة الضرورة التي يشيرون إليها، وإذا كان هناك من مذنب يجب محاسبته في كل ما جري فليس هو بالتأكيد هشام طلعت مصطفي الذي أحسن استغلال المناخ السائد في مصر وإنما المذنب الحقيقي هم المسئولون الذين قاموا بالبيع والتخصيص بالمخالفة للقانون والذين يسعون مرة ثانية للالتفاف حول أحكامه. لستُ أدّعي إلماماً بالقانون أو عبقرية في صياغة العقود ولكنني - مجتهداً - أطرح فكرة للحل يمكن دراستها بمعرفة أهل الاختصاص لأنها لن تضير مجموعة طلعت مصطفي كثيراً وتحافظ في الوقت نفسه علي أراضي الدولة وحقوق الحاجزين، وتتلخص الفكرة في تحويل «مدينتي» إلي شركة مساهمة بين الدولة ممثلة في هيئة تنمية المجتمعات العمرانية صاحبة الأرض ومجموعة طلعت مصطفي صاحبة الدراسات والاستثمارات والحق في الإدارة وحاجزي الوحدات بما دفعوه من أموال، فإذا أفلحت هذه الفكرة في إنهاء الأزمة أمكن تطبيقها علي كل ما يُنتظر من أحكام في كثير من الحالات المشابهة بدلا من البحث عن الحل عند توفيق الحكيم.