القول بأنه «لا تعليق علي حكم قضائي» يشبه قول الوزير في مسرحية السلطان الحائر: «الموت لمن يجرؤ علي تكذيب ذلك" ظهر مؤخراً في مصر «أنين» من بعض الأحكام القضائية بدأ خافتاً حذراً ثم تحول رويداً رويداً إلي محاولة للصراخ بأنه أصبح لنا الحق في «وقفة ما» القاضي بشر مثلنا والقانون يضعه بشر وليس آيات منزلات.. فلماذا لا يحق لنا التعليق علي أحكام القضاء؟ وقفة احتجاجية للناشطات على سلالم مجلس الدولة في مسرحية «السلطان الحائر» لتوفيق الحكيم التي نشرت عام 1966 كانت الأحداث تدور في عصر المماليك، وكان السلطان يحدد قبل وفاته السلطان التالي بشرط أن يكون النائب المختار حراً، فإن كان عبدا مملوكاً ينبغي عتقه قبل إعلانه وريثا شرعيا للمُلك أو السلطنة، وفي المسرحية اختار السلطان وريثه قبل موته وأعلنه علي الملأ لكنه لانشغاله بالحروب حتي وفاته نسي عتق ولي عهده.. فواجه السلطان الجديد معضلة قانونية هي (عدم شرعيته) لأنه عبد.. والقانون بل كل قوانين وشرائع البشر لا تجيز أن يملك العبد حكم الأحرار، لذا كان سلطانا حائرا يريد الخروج من مأزق عدم شرعيته، فكان أمامه حلان أحدهما القوة (السيف) ويمثل هذا الحل الوزير، والآخر القانون والشرع ويمثل هذا الحل القاضي، ودار بين ثلاثتهم جدالٌ نختار منه نصا ما يلي: الوزير: ليس من الضروري لمن تسنده القوة (السيف) أن يلجأ إلي الوثائق والحجج، يكفي أن نعلن علي الملأ أن مولانا السلطان قد اعتق عتقا شرعيا بأمر السلطان الراحل قبل وفاته، وأن الوثائق والحجج مسجلة محفوظة لدي قاضي القضاة، والموت لمن يجرؤ علي تكذيب ذلك! القاضي: هنالك شخص سوف يكذب ذلك وهو أنا! إذ لا أستطيع الاشتراك في المؤامرة الوزير: إنها ليست مؤامرة.. إنها خطة لإنقاذ الموقف القاضي: إنها مؤامرة ضد القانون الذي أمثله السلطان: القانون؟! القاضي: نعم أيها السلطان.. القانون.. أنت في نظر الشرع والقانون لست سوي عبد رقيق.. أي أنك شيء من الأشياء ومتاع من الأمتعة، وعلي هذا فأنت فاقد لأهلية التعاقد في المعاملات العادية التي يزاولها بقية الناس الأحرار.. السلطان: يا قاضي القضاة.. المسألة دقيقة.. القاضي: أمامنا طريقان.. طريق السيف وطريق القانون.. أما السيف فلا شأن لي به، وأما القانون فيقول إن العبد الرقيق لا يملك عتقه إلا مولاه وقد توفي مولاك فآلت ملكية العبد لبيت مال المسلمين.... والحل الشرعي أن نطرح مولانا العظيم للبيع في المزاد العلني، ومن يرسو عليه المزاد يعتقه بعد ذلك.... السلطان غاضبا: هل سمعتم هذا القاضي المُخرف؟! الوزير: يطرح مولانا السلطان العظيم للبيع في المزاد العلني هذا هو الجنون بعينه القاضي: هذا هو الحل القانوني الشرعي! السلطان والقاضي والوزير! في عصر (قدماء المماليك).. مازالوا هنا أيضا.. في عصر (المماليك الجدد)! سلطان عبد ووزير أحمق وقاضٍ يعرف القانون لكنه.. مشلول! تذكرت هذه المسرحية عندما غضب بعض المماليك الجدد ضد من شككوا في الشرعية الصحية لسلطان قد لا تبيح له حالته (التعاقد في المعاملات العادية التي يزاولها بقية الناس الأحرار)! وكذلك ذكرتني المسرحية بإعلان مضحك تم منذ أكثر من عام بأن سلطان دولة المماليك الجدد قام بتوكيل محام لرفع دعوة قضائية.. ضد من شككوا في شرعيته الصحية! وتذكرتها في تجربتي الخاصة عندما (تنحي القاضي) عن نظر قضية رفعها ضدي جهاز أمن يتستر علي سلطان حائر بشأن شرعيته المفقودة ويتولاه وزير جاهز طوال الوقت لسل سيفه لحماية العبد الحائر، يقولها قاضي القضاة (أما طريق السيف فلا شأن لي به)، ويقولها قاضي القضاة أيضا: ليس من حل قانوني إلا بيع هؤلاء العبيد في مزاد علني! تعليق علي حكم قضائي نغمة متجبرة علي العباد تسود مصر في عصر المماليك الجدد مفادها: (لا تعليق علي حكم قضائي) تشبه قولة وزير المسرحية الأحمق الجاهز دوما لسل سيفه حماية لسلطان عبد:(الموت لمن يجرؤ علي تكذيب ذلك) هذه النغمة المتعجرفة المتجبرة تريد أن تلزم الناس قهرا بالخرس.. بالصمت.. بالإذعان المبين، لكن- وقد تلاحظونها- ظهر مؤخرا في مصر (أنين) من بعض الأحكام القضائية بدأ خافتا حذرا ثم تحول رويدا رويدا إلي محاولة للصراخ بأنه أصبح لنا الحق في (وقفة ما) أمام (شلل قضائي) يسبب عجز القضاة عن تحقيق العدالة.. عجزهم جميعا حتي هؤلاء الذين يتمتعون بينهم بنزاهة السمعة.. أمام جبروت سيوف المماليك الجدد المسلولة ضد المصريين، هذه الوقفة ليست شيئا يطفو فجأة علي سطح مصر.. إنها بنت ذلك الأنين الذي بدأ منذ تملك أمرنا هؤلاء المماليك علي اختلاف وظائفهم ومواقعهم.. سواء كان منهم من يشبه سلطان المسرحية العبد أو الوزير الأحمق أو أمراء لصوص يعيشون ترفا مبرحا علي حساب موت الناس جوعا في مصر.. وبينما يواجه المصريون في اللحظة الراهنة تهاويا مروعا لحائطهم الأخير.. (فالقضاء حائط أخير يتكئ عليه الناس في كل المجتمعات البشرية).. فإننا في حاجة لبحث سبل إنقاذ حائطنا الأخير من وضع (القضاء المشلول) إلي وضع القضاء الذي يطمئن الناس للاتكاء عليه في صراعهم الطويل ضد المماليك الجدد.. وفي التراث القديم لجأ قاضٍ صغير السن إلي شيخ القضاة وهو في سكرات الموت يسأله نصيحة أخيرة عن العدل فقال له:( يا بني.. عدالة مطلقة لن تتمكن من تحقيقها علي الأرض.. لكن اجتهد لتحقيق (ظل العدالة علي الأرض).. فسأل القاضي الصغير: وما ظل العدالة علي الأرض؟ أجاب شيخ القضاة: ظل العدالة علي الأرض يا بني هو (القانون).. فاجتهد لإرسائه هنا).. القانون ظل العدالة علي الأرض.. إذن نحن أمام أمرين يشكلان حائطنا الأخير في مواجهة المماليك الجدد.. القاضي والقانون، متي وكيف يكونان مرسيً للعدالة أو حتي ظلها؟ لن نعير انتباها لقولة الوزير (الموت لمن يجرؤ علي تكذيب ذلك.. لا تعليق علي حكم قضائي) إذ يحق لنا أن نكذبكم يا مماليك مصر الجدد بحجة الواقع المعاش وخراب العمران الذي أوقعتمونا فيه.. ويحق لنا أن نعلق علي أحكام قضائية يصدرها المماليك علي ألسنة قضاتهم.. وتذكروا.. يحق لنا، لأن القاضي بشر مثلنا.. والقانون يضعه بشر فهو ليس آياتٍ منزلات. الشرعية المفقودة لعلك كلما قررت البحث عن (سبب الأزمة) في مصر تجدها تعود للجذر نفسه: غياب الشرعية في رأس الدولة، الأزمات الاقتصادية.. الأزمات الاجتماعية.. الأزمات الأخلاقية.. الأزمات السياسية.. كل الأزمات جذرها واحد.. إننا نعيش في (دولة لا شرعية فيها لمن يقبضون علي زمامها)، وأزمة (عدم الاطمئنان للقضاء) التي تبرز يوما بعد يوم في هذا البلد- وهي أزمة خطيرة حقاً - وهي واحدة بدورها من الأزمات التي يعود سببها إلي (جذر الشرعية)، القانون ينبغي احترامه حين يسنه الأحرار! أي حرية يتمتع بها رجال السلطة التشريعية في بلادنا؟ هل هو حر من يقف مرتجفا في مجلس الشعب يدعو للسلطان بطول البقاء؟! كيف يدعو له بطول البقاء ثم يكون قادرا علي (سن قانون) يلزمه بالانصراف في وقت محدد وتسليم السلطة لمن ينتخبه الناس الأحرار؟ هل هو حر من يسن قانونا لا يستفيد منه إلا سلطان عبد وعائلته ومماليكه الطفيليون؟ المسألة ليست أن قاضيا هنا أو هناك يذعن لسيف الوزير وغضب السلطان وليست أن قانونا يتم الالتواء عليه بل القضية الجذرية عندنا.. من يسن القوانين؟! بأي وازع يسنها؟! ما شرعيته؟! الدولة الحرة من خصائصها أن يسن القوانين فيها من لا يسلط علي أعناقهم سيف وزير وغضبة سلطان.. نحن في حاجة إلي ثورة تسقط (دولة المماليك الجدد) وتؤسس لدولة جديدة يكون مشرعو قوانينها (آباءً مؤسسين) يسنون القوانين لصالح الناس الذين يولدون من بطون أمهاتهم أحرارا.. وليست لصالح هذا العبد المملوك أو ذاك، كيف نتحدث عن (سيادة القانون) والقانون نفسه معيب؟! كيف نطالب بسيادة القانون والقانون نفسه يسجن أصحاب الرأي ويطارد كل من يحلم بدولة جديدة حرة.. لمواطنين أحرار؟ لا نريد تغيير القضاة الآن.. القضاة ليسوا هم مربط الفرس.. فلو كانوا أحرارا لا يهددهم سيف الوزير لما رضخوا أو رضخ بعضهم لمن لا سلطة له عليهم.. نحن نريد للقضاة ألا تكون للسلطان ووزيره سلطة عليهم.. نحن نريد تغيير من يسنون القوانين.. وأحد هذه القوانين هو قانون أو حزمة القوانين التي تكبل وتهدد وتتوعد القاضي نفسه.. وتجعله تابعا لسلطان عبد ووزير أحمق.. ولكن كيف نستبدل مشرعين جبناء بمشرعين أحرار؟ مشرعون يعرفون وهم يسنون القوانين أنهم في مأمن من غضب السلطان وسيف وزيره؟ الآباء المؤسسون كل تجارب الأمم الأخري بدأت (أولا) بإزاحة السلطان ووزيره ومماليكه! ثم جاء (الآباء المؤسسون) ووضعوا (القوانين الأم) دون أن تكون علي أعناقهم السيوف، فوضعوها برغبة مخلصة شريفة في تحقيق مجتمع مستقر.. وليس برغبة في تجنب ضربة سيف.. فكانت نصوص قوانينهم لا تشبه (قوانين الخوف) السائدة قبلهم.. نحتاج إلي طرح السؤال أمام مفكرينا ومثقفينا وكبراء حكماء هذا البلد.. متي تتشجعون فتعلنون من جانبكم شطب هذه القوانين الآسنة من سجلات بلدنا ووضع قوانين جديدة (رغم أنف) السلطان.. قوانين جديدة علي رأسها (اختيار حاكم حر بشرعية جديدة لا تبني علي السيف)، فمتي جاء لحكم بلدنا (سلطان حر) سيضع المشرعون بالتالي قوانين عادلة.. وحينها فقط يمكن تحقيق ظل العدالة علي الأرض.. حينها فقط يكون لمفهوم (سيادة القانون) معني، حينها فقط لا يكون القضاء مشلولا ويستطيع قضاتنا النزيهون الحكم بسيادة القانون ونستطيع نحن المواطنين الذين ولدوا من بطون أمهاتهم أحرارا أن يتكئوا (باطمئنان) علي حائطهم الأخير.. فلا يكون هناك داع أصلا إلي (التعليق علي حكم قضائي) ليس لأن المماليك يهددون بالسيف من يعلق عليه وإنما لأننا نستشعر الاطمئنان إلي سيادة ظل العدالة علي الأرض، المسألة إذن أنه من قبيل هدر الوقت أن نناقش (القضاء ووضع القضاة بالنسبة لنا كمواطنين) وإنما ينبغي أن نناقش مباشرة (كيف) نعلن إزاحة الكابوس المملوكي وبدء (تأسيس دولة جديدة بشرعية محترمة) شرعية نستطيع النهوض في ظلها لحل باقي كل الأزمات.. ومن بينها أزمة القضاء المشلول؟ كيف؟ كيف نزيح هؤلاء المماليك؟ استقلال القضاء كعادتنا في مصر- وهذه من جذور أزماتنا الاجتماعية والثقافية- تطفو علي السطح حركة (تمرد) من نوع ما ثم تخبو بعد أن ملأت الدنيا.. هكذا كانت حركة مناداة القضاة بالاستقلال عن سيف وزير السلطان، ترعرع الأمل فينا ونحن نتابع إصرارهم علي المضي في نيل استقلالهم.. فاستقلالهم هو استقلال لنا وحائط مكين لمطالبنا نطمئن للاتقاء عليه، ثم خبت جذوة التمرد الجميلة لدي القضاة، لكننا ينبغي ألا نيأس.. فطريق (الثورة الشاملة) لتأسيس دولة بشرعية جديدة طريق شاق.. وحتي لا تتشتت الجهود نحن في حاجة لمناداة القضاة (الشرفاء) من جديد، بل ينبغي علينا أن ننفخ في جذوة تمردهم.. لا نتركها تخبو هكذا وكأن شيئا لم يكن.. القضاء المشلول ليس مصيبة القضاة وحدهم إنما هو مصيبة مجتمعنا.. وليس كثيرا أن نحلم.. حلما لا يموت.. بأن يأتي يوم قريب فيكون القضاة باستقلالهم هم (الآباء المؤسسون) لدولة جديدة بشرعية جديدة.. بعض الأحكام القضائية إذن التي تشي كم أن قضاءنا بات مشلولا.. جراء ضربات سيف يشبه سيف ذاك الوزير الأحمق الذي يريد أن يقهر الناس قهرا ليفرض عليهم (بلع) الرضوخ لسلطان عبد.. هذه الأحكام القضائية لا ينبغي أن تجعلنا نيأس من فكرة (القضاء) ذاتها.. ولا حتي من فكرة أن هناك ما زال قضاة يرفضون أن يتبعوا مملوكا يحركهم بطرف سيف.. فالقضاة بشر والخوف لا يرحم البشر.. إنما هذه الأحكام يجب أن تنبهنا إلي (أولويات التغيير).. المساندة بكل ما نملك من طاقة لحركة استقلال القضاة.. ليس من أجل قضية فردية هنا أو هناك.. وإنما من أجل الحلم بدولة جديدة تتأسس علي شرعية جديدة.. لا خوف فيها كما في مسرحية الحكيم من سلطان عبد أو وزيره الأحمق، ولنتذكر أنه حلم مشروع والحلم آخر ما يموت. المزاد بقي أن أنقل لكم ما تم في المسرحية.. لقد أصر القاضي علي بيع السلطان العبد في مزاد علني.. رضخ السلطان (بضغط القاضي) ليس فقط لأنه سلطان ضعيف يعرف أن لا شرعية له.. لا.. إنما لأن القاضي أصر علي ذلك.. ولننتبه هنا إلي أن إصرار القاضي حتي والسيف مسلول أمام عينه هو إصرار يؤتي بثماره.. وأيده الحكماء الذين يريدون لبلدهم أن يكون حرا، وفي المزاد اشترت السلطان: امرأة! لكنها رفضت عتقه والتخلي عنه.. قيل لها إن عتقه كان شرطا لشرائه.. لكنها رفضت التخلي عنه فجاءها الوزير الأحمق وقال لها: ستتخلين عنه بهذا السيف، قالت له: لقد (فات أوان) هذا السيف أيها الوزير.. إنه القانون!