عندما قام علماء الانجليز عام 1996 (بإنتاج) النعجة دوللي بالاستنساخ المباشر عن طريق حقن محتويات خلية من ضرع الأم في رحمها ؛ كان ذلك إنجازا علميا غير مسبوق، ولقد أثار ميلاد دوللي في ذلك الحين جدلا ربما لا يزال قائما بين المفكرين والمثقفين، إذ قام علماء الاستنساخ بفرقعة إعلامية ضخمة حين أعلنوا استعدادهم لاستنساخ عباقرة الإنسانية إن هم حصلوا علي أجزاء صغيرة من رفاتهم، وتركز الحديث إذ ذاك علي الموسيقي النمسوي (فولفجانج موتسارت) وثار الجدل حول إمكانية الحصول علي موتسارت آخر، له نفس شكل وأوصاف موتسارت الأصلي الجسمية والشكلية، واصطدم الجميع بأنهم إن استطاعوا استكمال خطوات الاستنساخ وخرج إلي الوجود موتسارت آخر بلا أب ويحمل كل صفاته الجسمية ؛ فإنه من المستحيل تنشئة هذا الطفل علي نفس منوال تنشئة موتسارت، إذ لن تتوفر الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والزمنية، ولا الأب والأم والأهل، التي كانت إبان ولادة موتسارت وتنشئته، والتي نجم عنها آنذاك وجود العبقري موتسارت، فقد وهب والد موتسارت حياته لابنه حتي لقد قيل إن الأب كان السبب الأساسي في صقل موهبة ابنه، ما أدي إلي ظهور عبقرية موتسارت الموسيقية وهو في سن الرابعة حين كتب أول كونشرتو، وفي السابعة كتب أول سيمفونياته، وأوبراه الأولي كتبها في الثانية عشرة من عمره. المهم.. أن من فكر في هذا الموضوع آنذاك، أو من لا يزال يفكر في إمكان حدوثه؛ لا بد وأن يصطدم بحقيقة أن المواهب لا تورث عبر الجينات، فوالد موتسارت لم يكن موسيقيا موهوبا ولم يكن والد نزار قباني شاعرا أو والد أينشتين عالما، وهكذا.. فكل المواهب التي حملها بعض بني الإنسان عبر العصور لم تورّث لهم من والدِيهم عبر جيناتهم، وإنما كانت في بداياتهم مجرد صفات أو نواح تميز، تطورت - إن اكتشفت مبكرا - مع نموهم البدني والعقلي لتسطع بعد ذلك في موسيقي أو أدب أو اختراع أو ما شابهها من مختلف المواهب. خطرت هذه الخاطرة في بالي حين شاهدت أحد البرامج التليفزيونية الحوارية، اتهم المحاور ضيفه أنه وصل إلي منصبه في الإعلام كمقدم لأشهر البرامج التيلفزيونية لأن أباه كان يرأس اتحاد الإذاعة والتليفزيون وقت تخرجه وتعيينه، وكان الضيف يدفع عن نفسه هذه التهمة بأنه (رضع) الإعلام التليفزيوني في نشأته في بيت أبيه الإعلامي المحترم الذي كان وأهله يتكلمون العربية الفصحي في البيت، وأنه لولا موهبته لما استمر في مركزه الإعلامي المهم.. هنا ساءلت نفسي: ألم يزوّر بعض أساتذة كلية الطب منذ بضع سنوات نتيجة البكالوريوس في الكنترول ليصبح أبناؤهم أوائل دفعاتهم؟ ألم ينتسب بعض من فشلوا في تحقيق المجموع الكبير في الثانوية العامة إلي كليات الطب في رومانيا وبولندا والمجر ؛ ثم قبلت أوراق تحويلهم من تلك الكليات إلي كليات الطب في مصر بقرارات من ذويهم؟ ألم يصبح الالتحاق بكلية الشرطة أو الانخراط في سلك النيابة والقضاء ضربا من المستحيل لمن ليست له الواسطة العائلية المناسبة، أو المصلحة الشخصية المباشرة؟ أوليست هذه التصرفات من أجل حصول الأبناء والبنات (الجهابذة) علي وظائف آبائهم وأمهاتهم ليجلسوا في أماكنهم؟ ألا يَعتبر هؤلاء أنهم قد انتزعوا بالكذب وشهادة الزور حقوق ممن يستحقون تلك الوظائف خلاف أبنائهم؟ ولنا أن نقيس علي هذا طريقة التعيين في معظم الوظائف في مصر من الخفير إلي الأمير، وقد لخص تقرير الأممالمتحدة منذ عدة سنوات عن مستقبل التنمية في الشرق الأوسط هذه الحال المزرية في مصر في جملة مريرة ترجمتها: (إن الناس يحصلون في مصر علي الوظائف طبقا لمن يعرفون، لا تبعا لما يعرفون). فابن الطبيب يجب أن يصبح طبيبا، وابن القاضي قاضً، وابن الإعلامي إعلامي، وابن الممثل ممثل، وكل ذلك بالمخالفة لقوانين الطبيعة ؛ فالوظائف لا تورث، لأن ظروف النشأة والمعطيات المجتمعية في زمان الأب والتي أدت به إلي تقلد المنصب أو الوظيفة ؛ قطعا ليست هي نفسها ظروف نشأة الابن، وجينات البويضة والمنيّ تحدد لون العينين والصفات الجسمية والقدرات العقلية، ولكن ليس منها أبدا ما يحدد مواهب المرء أو وظيفته أو منصبَه، حتي وإن كان أعلي منصب في المملكة.