كان يوم 12 سبتمبر 2010 يوماً تاريخياً في تركيا، حيث تم الاستفتاء علي تعديلات دستورية علي 26 مادة في أكبر تعديل دستوري تشهده تركيا منذ تأسيس الجمهورية. أهمية تلك التعديلات أن الشعب التركي للمرة الأولي يقرر بنفسه بأصواته الشعبية ما يريده في دستور البلاد الذي احتكرت المؤسسة العسكرية والبرلمانية والقضائية من قبل إقرار الدساتير وأي تعديلات عليها. والأهمية الأخري أن تلك التعديلات بمثابة استفتاء علي أداء حزب العدالة والتنمية المحافظ ذي الجذور الإسلامية الذي تقدم بتلك التعديلات، وحاول الحصول علي توافق أحزاب المعارضة عليها ولم ينجح بسبب تعديلين جوهريين يطالان المؤسسة العسكرية وإمكانية محاسبة الضباط أثناء حل السلم أمام المحاكم المدنية، وكذلك إعطاء الحق للضباط الذين يفصلهم مجلس الأمن القومي في التظلم أمام محاكم التمييز «النقض»، والتعديل الثاني الأخطر هو توسيع المحكمة الدستورية ومجلس المدعين العامين وإعطاء البرلمان الحق في تعيين عدد مناسب في الهيئات القضائية العليا مما يغل يد المؤسسة القضائية في حل الأحزاب السياسية وتقييد نشاطها وهو ما مارسته باستمرار ضد أحزاب عديدة في مقدمتها الأحزاب ذات التوجه الإسلامي وكادت تطيح بحزب العدالة والتنمية نفسه منذ أشهر. إذن هذه التعديلات تعيد التوازن إلي الحياة السياسية التركية وتعلي من شأن الإرادة الشعبية ممثلة في البرلمان المنتخب في انتخابات دورية حرة ونزيهة وشفافة . كانت النتائج كبيرة سواء في نسبة التصويت التي بلغت 77 % أو نسبة الموافقين التي وصلت إلي 58% . اعتبر المراقبون جميعاً تلك النتائج استباقية لنتيجة الانتخابات المقبلة في العام المقبل علي مقاعد البرلمان، وأنها انتصار مبكر لحزب العدالة والتنمية الذي يحصل بذلك علي دورة ثالثة للحكم متصلة لم تحدث من قبل في تاريخ تركيا الحديثة. منذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا وهو يواجه تحديات ضخمة وعسيرة استطاع بتوفيق كبير من الله تعالي، ثم بتأييد من الشعب التركي تجاوز تلك التحديات والنجاح فيها. هذه الانتصارات مكنت الحزب من تحسين حال الاقتصاد التركي وتجاوز آثار الأزمة الاقتصادية العالمية ووصل الاقتصاد التركي إلي المرتبة ال 16 عالمياً ووصل دخل الفرد التركي إلي مستوي غير مسبوق قياساً للمنطقة التي تنتمي إليها تركيا، وقد يقفز الدخل الفردي إلي مستويات عالمية إذا التحقت تركيا بالاتحاد الأوروبي. استطاعت حكومة حزب العدالة حل معظم مشكلاتها مع دول الجوار وتنمية العلاقات مع سوريا وأرمينيا واليونان، ولم يتبق لها إلا مشكلة جزيرة قبرص التي تعطل - مع أمور أخري - حسم ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. استطاع الحزب والحكومة تخطي المؤامرات التي دبرتها مجموعات عسكرية وأخري سياسية وقضائية وإعلامية ضد الحزب بتشويه سمعته واتهامه بتبني أجندة سرية تريد تطبيق الشريعة الإسلامية بالبلاد وتريد إحياء ما تسميه تلك الجهات "العثمانية الجديدة" وتتهمه بالعمل علي إلغاء العلمانية في تركيا التي هي أساس قيام الجمهورية التركية الحالية علي أنقاض السلطنة العثمانية ودولة الخلافة الإسلامية. واليوم استطاع الحزب أن ينتقل بهذا الانتصار الكبير في الاستفتاء التاريخي بمعركته مع تلك القوي من مرحلة الدفاع إلي مرحلة الهجوم، ومن موقع المتهم إلي موقع المسئول عن بدء مرحلة جديدة في تاريخ تركيا الحديث. اليوم يستطيع الشعب التركي أن يقول إنه أنهي حقبة الانقلابات العسكرية التي حاولت تعطيل مسيرة الحياة السياسية الطبيعية بعدة انقلابات عسكرية كان آخرها انقلاب "كنعان إيفرين" ، الذي فرض الدستور الحالي علي البلاد، وهو ما تم تعديل بعض مواده في الاستفتاء الأخير. أهمية تلك الأحداث أن ما يحدث في تركيا لا يقتصر عليها فقط، بل هو محط أنظار العالم الإسلامي بل والعالم كله. وبالمقارنة نجد أن تركيا باستفتائها أعطت الشعب الحق في تقرير مصيره بينما بلادنا العربية وفي مقدمتها مصر باستفتائها علي تعديلاتها الدستورية الأخيرة في 2007 التي حرمت الشعب المصري من حقه الطبيعي في تشكيل أحزابه السياسية أو التمتع بانتخابات حرة وسليمة تحت الإشراف القضائي التام الذي مثل ضمانة أساسية في انتخابات 2005، وحقه في المحاكمة أمام قاضيه الطبيعي بإعطاء السلطة الحق في تشكيل محاكم خاصة استثنائية. تحديات ما بعد الانتصار في الاستفتاء الأخير بتركيا ما زالت كبيرة، وما زال أمام حزب العدالة والتنمية شوط بعيد في العمل علي إدخال تركيا مرحلة جديدة في تاريخها الحديث. يعلق الأتراك جميعاً آمالاً عريضة علي الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي ، ويعمل حزب العدالة علي ذلك ووضع هذا في مقدمة برنامجه السياسي، إلا أن الحزب بدأ سياسة أخري بالتوسع شرقاً وجنوباً بدلاً من الاكتفاء بالنظر إلي الشمال الغربي تجاه أوروبا فقط . وهذا تحد كبير علي الحزب والحكومة والشعب التركي حسمه، فأوروبا لا تريده والبابا يتحدث في بريطانيا عن العودة إلي الإيمان المسيحي، وفرنسا وألمانيا عارضان بقوة انضمام تركيا، والجميع يريد لتركيا دوراً أقل من عضو كامل في الاتحاد الأوروبي. كما أن علاقة تركيا الموروثة بالكيان الصهيوني والولايات المتحدة أصابها ضرر بالغ في السنة الأخيرة، خاصة بعد الحادث الإجرامي الذي استشهد فيه 9 من الناشطين الأتراك علي سفينة مرمرة، وما زال الملف مفتوحاً وعلي الحزب والحكومة والشعب حسم تلك العلاقة الملتبسة التي تسيء إلي موقف تركيا في العالمين العربي والإسلامي، وتشوه موقف الحزب أمام الحركات الإسلامية. أخطر التحديات التي تواجه الحزب والحكومة هي الانقسام الذي حدث بسبب الاستفتاء الأخير، والبلاد وفق خريطة التصويت انقسمت إلي ثلاث كتل: الجنوب الشرقي ذو الغالبية الكردية قاطع الاستفتاء تقريباً استجابة لدعوة حزب السلام الديمقراطي الكردي «نسبة التصويت كانت 55 % فقط»، والغرب ومدنه الكبري بسواحله صوت ضد الاستفتاء، وهو من مؤيدي الأحزاب العلمانية والقومية، بينما غالبية الأتراك في الأناضول وبقية البلاد هم الذين أيدوا الحزب والتعديلات المطروحة، وهم الذين تم تهميشهم طوال الحقبة الكمالية. هناك حاجة ماسة قومية لتدارك آثار تلك النتائج علي المجتمع التركي وعلي النخبة المثقفة والاقتصادية حتي لا يتصدع المجتمع التركي وتزداد الانشقاقات داخله وتتسع الشقة بين مكوناته. الأمور المجتمعية وخاصة الدستورية لا تحسمها فقط نتائج التصويت في الاستفتاءات ولا الانتخابات، بل لابد من الوصول فيها إلي توافق وطني عام يحمي البلاد من الهزات والمؤامرات والتصدعات وهذا ما يمثل تحدياً ضخماً إذا أراد الحزب صياغة دستور جديد لتركيا. لقد نجح الحزب حتي الآن في معظم الامتحانات التي خاضها، وهو بإذن الله تعالي قادر علي الخروج من بقية التحديات، وتحقيق المزيد من الانتصارات في المعارك القادمة وهي ليست هينة ولا سهلة. ما يحدث في تركيا يهمنا جداً كمنطقة وشعوب وحركات إسلامية وسياسية وحكومات عربية وإسلامية . الدرس التركي يقول بوضوح إن إطلاق الحريات العامة وتطبيق الديمقراطية السليمة والانتخابات النزيهة كفيلة بتحقيق الإصلاحات المطلوبة بالتدرج الطبيعي وفي التوقيتات المناسبة لتحقيق أمن وسلامة ورفاهية المجتمعات الإسلامية، وإن البلاد الإسلامية والشعوب الإسلامية قادرة علي التوافق مع الآليات الحديثة في نظم الحكم الدستورية والبرلمانية التي تقوم علي التعددية الحزبية وتداول السلطة عبر الانتخابات الدورية . فهل هناك في مصر رجلٌ رشيد؟