المعاني العصرية للغة بعيدة كل البعد عن المعني الحقيقي الذي قصده القدماء مسمي الغزو يلصق بالإسلام ما ليس فيه ويصور المسلمين في حروب دائمة غزوات أحد والخندق وتبوك لم تكن حروباً إسلامية وإنما كانت لصد هجوم والدفاع عن الإنسان رجائي عطية منذ خمس سنوات كتبت عن طبيعة اللغة ككائن حي متطور وعن كونها وسيلة التخاطب والتفاهم وأيضاً وسيلة الأديان في نشر دعوتها واستمرار خطابها وتلقين أحكامها وتعاليمها، وأن تطور اللغة يستدعي بالضرورة عند قراءة التاريخ ومدونات الأديان، أن نلتفت إلي معاني الألفاظ والصيغ والعبارات والتراكيب التي كانت سائدة في زمن التنزيل أو كتابة السير، وبين ما يمكن أن يكون قد لحق بالمعني الاصطلاحي لبعض الكلمات من تغيير. وقد ذكرت فيما ذكرته وأعيد نشره سنة 2006 في كتاب الأديان والزمن والناس «كتاب الهلال 669 سبتمبر 2006» أن الأقدمين لم يقصدوا مثلاً بلفظ غزوة الذي استخدموه في رواية أحداث السيرة سوي أن النبي عليه السلام كان موجوداً بشخصه بين المسلمين في المسيرة أو البعثة أو المرابطة أو المدافعة فأطلقوا لفظ غزوة علي كل ما كان النبي عليه السلام موجوداً فيه دون أن يقصدوا غزواً بالضرورة أي بالمعني المقصود للغزو، وإنما قصدوا تمييزها عن تلك التي لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام حاضراً فيها بنفسه، ومن ثم فإن عدم الالتفات في الكتابة أو القراءة اليوم إلي المعني الاصطلاحي الذي قصده الأقدمون في رواية السيرة المحمدية يسرب إلي وعي المتلقي المعني المعجمي والمفهوم العصري السائد الآن لكلمة «غزوة»، فيحسب أن رسول القرآن غزا الأراضي والناس في كل ما صاحبه وصف «غزوة»، بينما لم يكن معظمها سوي مسيرات وبعوث لموادعة القبائل وتأمين دار الهجرة واستطلاع ما عساه يدبر لمداهمة المدينة والإغارة عليها أو مرابطة أو مدافعة لرد هجوم الكفار علي دار الهجرة، وقد شاع منذ زمن المبعث تسمية موقعة أحد بأنها «غزوة»، بينما لم تكن هذه الموقعة غزواً وإنما كانت دفاعاً ومدافعة بظاهر المدينة لرد قريش التي جاءت بأحلافها من الكفار للهجوم علي المسلمين بالمدينة! .. ولم تكن غزوة الخندق غزواً، فلم يخرج الرسول والمسلمون لغزو أرض ولا ناس، وإنما رابطوا وحفروا خندقاً حول المدينة لصد الأحزاب الذين حاصروها لغزوها!.. ولم تكن غزوة «تبوك» غزواً، وإنما مسيرة لصد هجوم مرتقب أتت الأخبار بأن الروم يحشدون له علي التخوم الشمالية لمهاجمة المسلمين! يوقع الالتباس عدم الإلمام بمعاني الأساليب والصيغ في زمان السيرة أو التنزيل وإسباغ المصطلحات أو المعاني العصرية للغة علي ما جرت به الكتب المقدسة أو مدونات السيرة في زمانها، لذلك فإنه من المهم جداً لفهم الكتب المقدسة ومثلها وقائع السيرة معرفة «دلالة» الألفاظ والصيغ والتعابير والأساليب والشواهد في عصر التنزيل أو كتابة السيرة لا في عصرنا الآن! وقد رأينا مخاطر عدم الالتفات إلي المفهوم الاصطلاحي الذي كان معنياً بكلمة «غزوة» في كتابة السيرة المحمدية، بيد أن هذه المخاطر تتضاعف وتوغل في الابتعاد عن المقصود حين تترجم الكلمة إلي لغة أو لغات أخري! فللكلمة في الإنجليزية مثلاً مرادفات عديدة هي في النهاية لمطلق كفاءة وذوق واختيار المترجم، من هذه المرادفات «invade» ومعناها: اعتدي علي وغزا وهجم أو أغار علي.. وكلمة «Raid» وتعني: غارة أو مداهمة أو سطواً.. وكلمة «attack» وتعني: هاجم أو هجم علي أو داهم أو أغار علي أو انقض علي.. وكلمة «assauit» ومعناها: اعتدي واغتصب وهاجم وغارة وحملة واعتداء وتهجم وهتك وهجوم عنيف.. وكلمة «maraud» وتعني الإغارة للسلب والنهب!! ولا يفوت أن هذه الترجمات تنقل إلي الناطقين بغير العربية معاني بعيدة كل البعد عن الحقيقة الواقعية الفعلية! لذلك فقد كان صائباً ما تنادي به من أيام فضيلة الإمام الأكبر والدكتور محمود حمدي زقزوق من وجوب الكف عن إطلاق كلمة «غزوة» علي ما لا ينطبق عليه المعني الاصطلاحي لهذه الكلمة، فاستعمال الكلمة في غير موضعها يعطي مدلولاً غير المدلول الصحيح للمسيرات أو البعوث أو المدافعة أو المرابطة ويلصق معني الغزو بما لا غزو فيه، ويؤدي ذلك إلي إشاعة معانٍ خاطئة تصور الإسلام وكأنه كان في حرب دائمة لدرجة أن بعض المؤرخين أحصوا بناءً علي هذا التخليط في المعاني ما يبلغ نحو 47 غزوة، وهو إحصاء غير صحيح لأنه مبني علي خلط في معاني ومدلولات الكلمات والألفاظ. ولذلك أيضاً لم يكن موفقاً، فضلاً عن خطأ تأويل الآية 156 من سورة آل عمران الاعتراض الذي أبدي بأحد المقالات، ولا الاستطراد إلي تعميم كلمة «غزوات» فيما سماه كاتب المقال بأنه كان دفاعاً عن الإنسان فتعميم مسمي الغزو يلصق بالإسلام ما ليس فيه ولا يعي أو يدرك المعني العميق الذي أراده الإمام الأكبر والدكتور زقزوق لضبط الكلمات وتحديد المعاني، وهو مسعي رشيد لا يجري عليه خلاف!!