الليل.. والحقيبة الثقيلة في يدك، وأنسام الخريف الباردة وسط محاولاتك في الإفلات من بقايا الأمس.. ترمق المجموعة السائرة تتحدث بصخب.. وتفكر في الصفقة التي اختفيت بموجبها عن العالم كي تعثر علي نفسك.. تنزع السماعات عن أذنيك.. الحاجة لصوت أكثر دفئا.. تتلفت حولك.. الحارس أمام الكنيسة العتيقة يستوقف أحد المارة ليسأله عن ثقاب.. حتما لم يرد أن يوقظ الغافي بجواره لإشعال لفافة... صورة المسيح علي الجدارية.. ثنايا عباءته.. وجهه المعذّب.. الهالة المضيئة حول رأسه.. تستمر في سيرك.. النفق.. صوت القطار الذي يعلن سطوته وسط السكون النسبي.. ضباب أم دخان ذلك الذي وضع كخلفية علي الصورة لتبحث عن مثالية ما تحاول إثبات أحقيتها بها، إلي أن يطلع الصبح بأنيابه.. الجزء المكشوف من الشارع حيث اكتسبت نسمة الهواء جرأة لتصبح تيارا بارداً.. تسخر من فكرتك عن شاعرية الشتاء، التي تراقب بها الموجودات من شرفتك وبيدك المج الساخن.. سترة أمل دنقل الرمادية، يحكي أنها هي الوحيدة التي تمنجه الدفء بلا مقابل.. الدفء.. تلك الكلمة، وافتقادك ل... لا تدري بالتحديد.. لو أن الشجن يقتل، لتحوّلَت ذاتك إلي قربان يومي.. صوت حفيف الأوراق وسيارة تمضي.. تتوقف.. الهاتف في يدك.. تهم بطلب الرقم.. تتراجع.. الساعة تقترب من الرابعة صباحا.. تنتبه للظلال، لذاك التأثير المروع.. تفاصيل مبهمة وكأنك تري الكون من لوحات رينوار.. النازلة من العربة بعيدا عن الناصية تنظر للنقود بيدها.. تساوم.. لا يعبأ بإلحاحها.. ينظر للطريق أمامه ويبتعد وكأنها لم تكن.. مقهي يغلق.. بائع الجرائد في مشيته الأزلية المتثاقلة، يقترب من فرشته وينظر لحدودها بتأنٍ غريب وكأنه يعيد اكتشافها.. لمبة نيون لا تكف عن لعبة، تومض فيها وتطفئ.. الشارع الحجري الخالي من الباعة.. طفل ضال ينكمش أكثر علي ورقة الكارتون التي يتخذها فراشا وغطاء.. طائر وحيد يحلّق فوق البنايات الغافية.. وأسئلة عبثية لا تكف عن التردد.. ستبدأ دوماً ب«كيف».. ولن تكف أبداً عن تذكيرك بما كان.