العدل قيمة عليا ومبدأ إلهي قبل أن يكون إنسانيًا (في الإسلام مرجح أنه أحد أسماء الله الحسني) وهو بهذا المعني أمر مطلق يأبي التقيد بحدود ولا شروط، والعدالة (التي هي العدل متحركًا علي أرض الواقع) تتحقق وتزدهر بالتجرد التام والتسامي فوق كل الاعتبارات ومن ثم فلا عدل ولا عدالة عندما تتدخل الأهواء والتحيزات والانتماءات مهما كان نوعها، اجتماعية أو سياسية أو مذهبية .. إلخ، وليس صدفة أن رمز العدالة الشائع والعابر للثقافات عبارة عن صورة لشخص أو كائن (غالبا أنثي) يحمل الميزان بينما هو معصوب العينين في إشارة إلي أن القائم علي إحقاق الحق وإقامة العدل لابد ألا يسمح لنفسه بمجرد رؤية أي فروق أو امتيازات قد تميز بين الناس إذا كانوا أطرافًا في خصومة ينظرها.. ومع ذلك فالرحمة قد تعلو فوق العدل في بعض الظروف لأنها قيمة أسمي وأعلي وأسبق (حتي في ترتيب قائمة أسماء وصفات المولي تعالي). طبعًا هذا كله بديهي، لكن من قال إننا لانحتاج إلي تذكير أنفسنا بالبديهيات أحيانًا، وقد وجدت نفسي في حاجة (أنا والقراء) لاستدعاء وإعادة التأمل في معني ومفهوم العدل، عندما جلست لكتابة هذه السطور وفي نيتي التعليق علي قضيتين تبدوان في الظاهر علي الأقل متشابهتين واقتحمتا مؤخرًا الاهتمام العام بدرجتين مختلفتين، وكلتاهما تتعلقان بالحقوق الإنسانية لسيدتين أولاهما مواطنة مصرية تعيش معنا في مكان صار مجهولا الآن، والثانية سيدة إيرانية تقبع في السجن منذ سنوات . فأما المواطنة المصرية فتدعي كاميليا شحاتة وقضيتها بقدر ذيوعها وشهرتها مشوهة وتعاني وقائعها فوضي عارمة غذاها الغموض المتعمد واختلاط الحقائق القليلة بفيض هائل من الشائعات والأكاذيب والتضارب في الأهواء واستباحة الانتقائية والازدواجية في التعامل مع المبادئ، وهي كلها أعراض لأمراض التعصب والجهل وضيق الأفق. ولو حاول إنسان مثل العبد لله الاقتراب من تلك القضية وأن يحفر طريقًا للعقل والرحمة والعدل وسط كل هذه الفوضي والزحام الشيطاني، فقد لا ينجو من هياج ألف شيطان رجيم علي الأقل ليس أقلهم قسوة وجلافة زملاء «بعضهم جيران في هذه الصحيفة» استحلوا المزايدة علي عباد الله والكتابة بغير قراءة والفتوي بغير علم ولا تعليم أصلا ولا حتي أخلاق، ومع ذلك فالحق أولي بالاتباع، والحق في قضية «كاميليا» إذا جردناها من فيض الركام المكدس فوقها أنها سيدة «يحتمل» أن تكون حرمت من الحق في ممارسة حرية العقيدة (هذا الحق الذي صار لغوًا رغم وجوده في الدستور) لكن المؤكد أنها محرومة الآن من حرية التنقل والإقامة وربما تعاني اختفاء قسريًا واحتجازًا غير قانوني، وعليه فأبسط قواعد العدالة أن ندافع عن حقها في التمتع بحريتي العقيدة والتنقل، غير أننا سوف نستقر في قلب الظلم ونخاصم كل معني للعدل لو انتصرنا لهذه الحقوق عند «كاميليا» المسيحية فقط، ثم عاد أغلبنا بعد ذلك إلي عادة التعامل مع المبدأ الدستوري المعزز بالنص القرآني المطلق القائل «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»، علي طريقة أهل الجاهلية الذين كانوا يصنعون أوثان وأصنام آلهتهم من «العجوة» حتي إذا جاعوا أكلوها بغير تردد ودون أن يهتز في عيونهم الوقحة رمش واحد!! و.. ضاق المجال وتآكلت المساحة فلم يعد لقضية السيدة الإيرانية "سكينة أشتياني" متسعًا في زاوية اليوم، فإلي الخميس إن شاء الله.