يومًَا ما يصبح هذا التشبيه شعار كل مثقفي مصر! وطبعًا الحديث ليس عن مثقفي الحظوة المتقلبين في النعيم الذين يرون الحياة «لونها بمبي» ويغضبهم الحديث عن تدجين المثقفين وإدخالهم الحظيرة رغم أن كثيرًا عاشوا سنوات طوال يطرقون بكل ما أوتوا من قوة علي باب الحظيرة! والعبارة التي لا يخلو التشبيه الوارد فيها من طرافة شطر بيت من الشعر أورده ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان» بعد قصة موحية يروي ابن خلكان قصة قاضٍ من قضاة المالكية هو عبد الوهاب المالكي عاش في بغداد لفترة يعاني الفقر فقرر تركها وقال لمودعيه: «لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية ما عدلت ببلدكم أمنية»، ثم أنشد: بغداد دار لأهل المال طيبة وللمفاليس دار الضنك والضيق ظللت حيران أمشي في أزقتها كأنني مصحف في بيت زنديق!! والمصائر المأساوية للمثقفين مسلسل مؤلم لا يتوقف، فلا يكاد يمر عام إلا وتنظم حملة لجمع تبرعات لهذا الكاتب أو ذاك، وكل الأشكال التنظيمية التي يفترض أن تكون ممثلاً للمثقفين من اتحاد الكتاب إلي مؤتمر أدباء الأقاليم لم تستطع أن تحقق للكتاب ما حققه إضراب علي رصيف مجلس الشعب لعمال مصنع نسيج. وعلي طريقة فرق الموسيقي العسكرية التي تظل تنشد «تقدموا....تقدموا» بينما هي في مكانها قام المثقفون مجانًا بدور محامي الفقراء متضامنين مع كل الحركات الاحتجاجية تقريبًا، دون أن يقدموا شيئًا يذكر لقضية الحقوق الاقتصادية للمثقفين بدءًا من اقتصاديات الثقافة وانتهاء بحقوق الملكية الفكرية المستباحة بلا حياء. وهذه القضية يفترض أن تكون علي رأس أولويات مؤتمر المثقفين المستقلين المزمع عقده، ليس فقط لأن الثقافة مفتاح رئيس للتغيير الشامل بل لأن الاختلال بلغ حده الأقصي وصارت الثقافة عبئًا علي عشاقها الذين يضطرون للاختيار بين المر والأكثر مرارة. والتمكين الاقتصادي للمثقفين عامل رئيسي من عوامل استقلالهم عن السلطة فإضعافهم يكون دائما مؤشرا علي اقتراب كارثة. ففي اليابان تحت الحكم الفاشي كانت العلاقة بين السياسيين وأصحاب الفكر متوترة حتي صارت علاقة عداء فتمتعت جماعة السياسيين بالسلطة ومزاياها بينما ظل مستواهم الثقافي متدنيا. وكانت كراهية السلطة من جانب المفكرين مضافة إلي افتقارهم للاستقلال في مواردهم المادية سببا لمنعهم من المشاركة في الحياة السياسية فأصبح دورهم محدودا في تثقيف الناس ورسم السياسات وبلغ ضعفهم حد تلقيبهم بألقاب منها: «المفكرون الضعفاء» «المتملقون الأذلاء» وبسبب ضعفهم لم يستطيعوا كبح جماح العسكريين اليابانيين حتي وصلت اليابان للكارثة. وإفقار المثقفين قضية من قضايا الإصلاح الرئيسة التي لا تقل أهمية عن القضايا السياسية، وفي ظل تنظيم شمولي يتخفي وراء ديكور ديمقراطي تقبض فيه الدولة علي أرزاق الناس وتقوم وزارة الثقافة بدور اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي دون أن يكون لديها أي محتوي ذو قيمة نجد أنفسنا أمام القفاز الحديدي الشمولي نفسه لكن بصيغ مراوغة، بينما اقتصاديات الفن، مثلا، تفضح الحقيقة، فقد لا يستسيغ البعض المقارنة بين كاتب مصري يحصل علي عوائد مهينة من كتاباته وآخر غربي يحصد ثروة من كتاباته وربما حصدها من كتاب واحد، لكن أحداً لا يستطيع تبرير حصول ممثلة أياً كانت نجوميتها علي أجر عمل واحد من التليفزيون المصري الممول من ميزانية الدولة يفوق ما يحصل عليه كاتب كبير طوال حياته. وقضية حصول المثقفين علي عوائد منصفة عن أعمالهم باتت شرطا موضوعيا لأن يحرر الكاتب كلمته وأن يتمكن من التفرغ لأعمال ذات قيمة فكرية ومعرفية حقيقية بدلاً من أن تستهلكه الكتابات السيارة الانطباعية فيبقي عمره كله يلهث وراء لحظة وفرة تمكنه من التفرغ وهو آمن لمثل هذا العمل - وهي لحظة قد لا تجيء أبداً - فيموت المثقف كمدا حاملا معه أحلامه المجهضة للقبر بينما الأمة تنحدر في هاوية لا قاع لها من التخلف بسبب ثقافة غلبت عليها السطحية والتفاهة. ولا ندهش بعد هذا إذا تأملنا الساحة الثقافية المصرية وقد أصابها القحط وأوشكت علي العقم، ولا ندهش إذا رأينا المثقفين الحقيقيين ينسحبون تاركين الساحة لمثقفي الدولة بخطابهم التبريري المتواطئ. فالتغيير في أي أمة مرهون بموقف «النخبة» ومع إضعاف المجتمع وإفقار المثقفين ساد الجهال. ولن يصلح الناس أبدا... إذا جهالهم سادوا!