في مجموعته القصصية «همس الجنون» استهل نجيب محفوظ السطر الأول من القصة التي تحمل المجموعة اسمها بسؤال: «وما الجنون؟» ثم تركنا بعد ذلك ننسج بأنفسنا الإجابة من سياق التفاعلات الشعورية والمكابدات العقلية لبطل القصة الذي المفروض أنه جُن جناناً رسمياً طبقاً للمعايير والمواصفات السائدة.. وقد يكون السائد هو الجنون الحقيقي لكنه مُحصن بانتشاره وشيوعه ويحظي بمعاملة «عين العقل» فقط لأنه غالب وسائد وراسخ في الواقع ومعتَمد ممن بيدهم سلطة تحديد شروط التعقل وفرض أسباب الجنان!! ما فات ليس فلسفة، ربما هو تخريف.. لكني كبرت وعشت في عصر نظام الرئيس مبارك (ثلثا عمري تقريباً) بما يكفي لكي أفتي بأن «العقل زينة» فعلاً لكن شيئا من الخرف لا يضر بل ربما كان مفيداً ومطلوباً بشدة أحيانا، ليس لتنفيس أسباب الاحتقان أو الانفجار العقلي فحسب، وإنما أيضا وأساساً لاستفزاز واستنهاض عناصر الدفاع الطبيعي الكامنة في النفس الإنسانية والمخصصة للوقاية من الجنان، بمعني أن التخريف هنا قد يؤدي الوظيفة نفسها التي يقوم بها الفيروس الضعيف عندما يستخدم في تطعيم الجسم ضد مرض يسببه الفيروس عينه وهو في كامل قواه الفيروسية.. والله أعلم. بهذا المفهوم البحباح (هل تسأل يعني إيه «بحباح»؟) لمسألتي العقل والجنان، وبذلك التسامح مع «التخريف» لدرجة اعتباره حقاً أصيلاً من حقوق الإنسان عموماً وإنسان مصر الحالية خصوصاً، أصبحت متعاطفاً جداً مع الحشاش المجهول الذي أنشد ذات يوم بيت الشعر القائل: كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء كما أنني لم أعد أعاند وأصر دائماً علي التمسك بمسلمات من نوع أن الحرية نقيض القمع والقهر، والشرف أحسن من اللصوصية، والتقدم أفضل من التخلف، وأن الظلم والبؤس والجوع والمهانة كلها ظواهر منحطة أو أقل شأناً من العدالة والعيش بكرامة.. إلخ باختصار.. لقد صرت ألوذ وأهرب أحياناً من أسباب ذهاب العقل بغير رجعة إلي هلوسات وخطرفات من عينة السؤال الاستنكاري عما عساه يتحقق للشعب المصري من مكاسب لو فاز بنظام حكم ديمقراطي خال من الفاسدين والمرتشين والنشالين، وخسر في الوقت نفسه الطلعة البهية للأستاذ جمال مبارك، فضلاً عن الحرمان من رؤية خلقة أحمد عز، والأخ «كامل» وناقص وخلافه؟! ثم يا أخي بالله عليك، ماذا يفيدك فعلاً لو لم تشرب من مياه المجاري وإذا تعرفت علي اللحمة شخصياً وأكلتها وتيسَّر لابنك أو بنتك مقعد في مدرسة ثم عمل شريف بعد التخرج، وإذا وجدت علاجاً عندما تمرض؟!.. بل وما جدوي أن تعيش في مجتمع إنساني نظيف من الزبالة وشتي أنواع الملوثات والأوساخ العقلية والروحية لو كان مقابل ذلك كله احتمال أن تفقد ولو ساعة واحدة من نحو 1200 ساعة بث تليفزيوني يومي مشحونة بطاقة تفاهة وجهالة وهيافة وقلة أدب تعادل ألف مرة قوة القنبلة النووية التي استخدمتها أمريكا في نهاية الحرب العالمية الثانية لإزالة مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين من علي وجه الأرض؟! استفتِ قلبك يامؤمن واحتكم لضميرك في لحظة التخريف المفترجة هذه وقل لي بحق الجحيم : ماذا يفيدك (بجد) لو كسبت نفسك وعقلك وروحك وخسرت الأخ «أنس الفقي» ومعه مئات المسلسلات وجيوش المذيعين والمذيعات وضيوفهم من الرقاصين والرقاصات والشمامين والشمامات؟! كن شجاعاً واعترف بأن صحتك الإنجابية كانت تعبانة جداً قبل أن تستمتع بالمناظرة التليفزيونية الأخيرة بين الست «آثار» والست «إثارة»، وأنك لم تكن مطلعاً بشكل كافٍ علي بلاوي الدنيا وهموم الإنسان المعاصر، قبل أن تكتحل عيون سيادتك برؤية الأستاذ طوني خليفة وزميلته «الجميلة الجريئة المستفزة» قوي جداً خالص !! صباح الهنا والنعيم اللي أنت فيه ياقلبي..