بيت شعر حفظته قبل أن أتعلم القراءة يقول: "كتبت وقد أيقنت أنني ستفني يدي وتبقي كتابتي!". كان لوحة خط جميل كتبها والدي خبيرالخطوط وفنانها، الذي ذاعت شهرته في مصر مطلع القرن العشرين قبل أن يقترن بوالدتي 1926، اعتنت والدتي بلوحات خطه وحفظتها داخل إطارات أنيقة زوقت بها جدران غرفة الضيوف والبهو ومدخل البيت. انتقل والدي إلي رحمة الله وبقيت كتابته ومنها لوحة :" كتبت وقد أيقنت أنني..." في إطارها، الذي بقي لدي هو أيضاً بعد رحيل أمي. اندمج، في لوحة "كتبت وقد أيقنت أنني ستفني يدي وتبقي كتابتي"، فن الخط وتشكيل الحروف وإيقاعها البصري مع إيقاعها في سمعي وما تحمله من حكمة إيمانية جعلتني، مبكراً، أتآلف مع الرحيل؛ أتوقعه يقيناً تُخلّد من بعده الأعمال التي عرفتها فيما بعد بوعد "الباقيات الصالحات". "كتابة" كانت تعني عند والدي "لوحة الخط"، لكنها أصبحت تعني لديَّ "التعبير"، صحيح أن الإنتاج الفني المشكّل لجمال الحرف وتكويناته هو "تعبير" كذلك، إلا أنه كان معي يعني الإنتاج المشكّل للقول بفن الإفصاح، ومن هنا كان منبع الخوف ألا تنجح يدي الفانية في كتابة ما يستحق، حين يبقي، أن يدخل في زمرة "الباقيات الصالحات". حاولت جهدي، علي طول مشواري الطويل في مهنة الكتابة، السعي لبلوغ مرتبة أن "تبقي كتابتي" شاهداً علي أن يدي الفانية لم تُضع وقتها في "الهجص" والإفتان و الدخول في المراء الكاذب مع محاورات ومحاور الأئمة الداعين إلي النار. حين أتهيأ للكتابة أعقد النية علي أنني أكتب مقالي قُربة لوجه الله تعالي، متبرئة من حولي ومن قوتي، سائلة أن يهبني ربي من لدنه، بحوله وقوته، مقالا صالحاً يقربني إليه. ولم يكن من الغريب إذن أن رفعت شعاري: "الحمد لله الذي لم يجعل نشر مقالاتي بيد غيره" فتحررت تماماً من الخضوع لنزوات الناشرين والحزن من إساءاتهم وعنجهياتهم و"قلة ذوقهم" و"بواختهم"، التي يحلو للبعض أن يمارسها بلا مبرر، ووفرت علي نفسي القلق من المنع والعزل والإلغاء ومايمكن ومالا يمكن وماهو مطلوب وغير مطلوب، وقلت ليدي: يا عزيزتي الفانية اكتبي مالا يخزني حين "تبقي كتابتي" وتكون شاهداً ينجيني من غضبه يوم العرْض عليه سبحانه. آآآآآآآآآآآآآآآآآآمين!