أصبح ملف دخول تركيا الاتحاد الأوروبي من الملفات الحاسمة، والتي يمكن أن تؤثر في علاقة تركيا بالغرب، وأيضا في سياسات تركيا تجاه العالم العربي والإسلامي. والموقف الأوروبي في أغلبه مازال حذرا من دخول تركيا إلي الاتحاد الأوروبي، لأن دخولها يؤثر في هوية الدول الأوروبية، فهي مازالت تري نفسها دولا أوروبية وغربية ومسيحية الجذور. ولكن تركيا هي دولة أوروبية بقدر، وأسيوية بأقدار أخري، وهي دولة مسلمة، لذا فهويتها التاريخية تختلف عن هوية أوروبا، وانتماؤها الحضاري مختلف عن الانتماء الحضاري لأوروبا. ولكن أمريكا وبريطانيا لهما موقف آخر، حيث يريان ضرورة انضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي. والموقف الأمريكي يربط بين انتماء تركيا إلي الاتحاد الأوروبي وبين موقف تركيا من الاتجاه شرقا ناحية العالم العربي والإسلامي. فأمريكا، ومعها بريطانيا، تري أنه كلما دفعت تركيا بعيدا عن الاتحاد الأوروبي، فسوف تتجه أكثر ناحية العالم العربي والإسلامي. وبسبب مواقف تركيا المتشددة تجاه دولة الاحتلال الإسرائيلي، باتت أمريكا تريد تسريع وتيرة إجراءات دخول تركيا الاتحاد الأوروبي، حتي يتم معالجة الموقف التركي من دولة الاحتلال الإسرائيلي، وغلق الباب أمام أي تدهور في العلاقات الإسرائيلية التركية. أما أوروبا فهي تري ضمنا أنها سوف تدفع ثمن المواقف الأمريكية، وأن أمريكا لن تتحمل مشاكل انضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي، وأنها تدفع الدول الأوروبية لتحقيق السياسة الأمريكية، والرامية إلي جعل تركيا بلدا مسلما ومنتميا للغرب في آن واحد، حتي يكون نموذجا لما تريد أمريكا بناءه في العالم العربي والإسلامي، حيث تريد إقامة نماذج غربية توفق بين القيم والمعايير السياسية الغربية، وبين خصوصية الدول الإسلامية الثقافية والحضارية، حتي يتم نشر النموذج السياسي الغربي في البلاد العربية والإسلامية، وهو ما سيصبح أساسا قويا للتحالف مع الغرب. أما تركيا حزب العدالة والتنمية، فهي تري في مباحثات الانضمام للاتحاد الأوروبي فرصة لها لإعادة بناء النظام الديمقراطي التركي، بصورة توقف تدخل الجيش في السياسة، وتحد من سلطة المؤسسات الحامية للعلمانية، حتي تتيح مساحة للحرية أمام التيارات السياسية المختلفة. وهو ما يمكن أن يفتح الباب أمام تحويل العلمانية المتطرفة التركية إلي علمانية معتدلة، بعد تقويض سلطة الجيش في الرقابة والتحكم علي الحياة السياسية. ومن ثم يمكن أن يؤدي هذا في المستقبل، إلي فتح الباب أمام حرية العمل السياسي للحركات الإسلامية، والتي مازالت تمنع من رفع أي لافتة سياسية إسلامية في تركيا. وحجم الاستفادة التي تحققها تركيا من مفاوضات الدخول في الاتحاد الأوروبي، أكثر مما يترتب علي دخول الاتحاد بالفعل، فإذا دخلت تركيا إلي الاتحاد الأوروبي، سيكون علي أوروبا دفع ثمن لذلك، ولكن سيكون علي تركيا أن تدفع ثمنا أيضا. ففي حالة دخول تركيا إلي الاتحاد الأوروبي سوف تصبح ملتزمة بالعديد من السياسات الأوروبية، وبالإطار العام الحاكم لمواقف أوروبا، مما سيجعلها مضطرة إلي تحسين علاقتها مع الاحتلال الإسرائيلي، وضمان بقاء تلك العلاقة علي الأقل في الحد الأدني المقبول أوروبيا. ولن تتمكن تركيا من الاتجاه شرقا ناحية العالم العربي والإسلامي، إلا في حدود قواعد الموقف الأوروبي. وسوف تضطر تركيا إلي التعامل مع حركة حماس، بالقواعد الأوروبية الملزمة نفسها، كما سوف تضطر إلي التعامل مع إيران طبقا للقواعد المتفق عليها أوروبيا. فتركيا الآن تتمتع بهامش للحركة أكبر من الهامش الذي سيتاح لها في حالة الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي. لذا يمكن القول: إن تركيا في حكم حزب العدالة والتنمية تستفيد من مفاوضات الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي، أكثر من استفادتها من الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي، لأن الحالة الراهنة توسع من هامش حركة حزب العدالة والتنمية، داخليا وخارجيا. أما في حالة رفض الاتحاد الأوروبي لانضمام تركيا له، فإن تركيا في هذه الحالة، خاصة إذا بقي حزب العدالة والتنمية في الحكم، سوف تجد نفسها في حل من توسيع الاتجاه نحو الغرب، وسوف تجد المبررات الكافية لتوسع اتجاهها نحو الشرق، لدرجة من الممكن أن تصل لحد جعل علاقاتها مع الشرق متوازنة مع علاقاتها مع الغرب، ولكن يصعب في المستقبل المنظور أن تكون العلاقات شرقا أكبر من العلاقات غربا. وفي هذه الحالة سوف تجد أمريكا نفسها في مأزق، لأنها أيدت تجربة حزب العدالة والتنمية، حتي تصبح نموذجا علمانيا معتدلا في بلد إسلامي، ومن ثم يتم تعميمه أو الدعاية له، ولكن كلما اتجهت تركيا نحو الشرق، سوف تخرج نسبيا من التحالف مع أمريكا، مما يجعلها تتمتع بحرية حركة أكبر. كما أن الرفض الكامل لدخول تركيا إلي الاتحاد الأوروبي، يسمح لحزب العدالة والتنمية أو أي حزب آخر يأتي بعده، بأن يحول بوصلته إلي الرؤية الإسلامية، خاصة بعد أن تنتهي مرحلة توسيع وتعميق الديمقراطية، بما يمنع أي قوة من الانقلاب علي نتيجة الانتخابات. وأمريكا تري أن رفض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، يعطيها الأسباب الكافية لتغير من سياساتها تدريجيا، بدرجة قد تجعلها في النهاية، وفي المستقبل البعيد، بعيدة عن الحلف الغربي. ومن ثم تصبح تركيا دولة قوية ونامية، وبعيدة عن التحالف الغربي، وتعمل من خلال محيطها العربي والإسلامي، وهذا يؤثر في المصالح الغربية في المنطقة، كما يضع دولة الاحتلال الإسرائيلي في مأزق، حيث تصبح محاصرة بين قوي إقليمية خارجة عن الحلف الغربي، وتصبح تركيا قوة غير متحالفة مع الغرب، مثل إيران أو سوريا. فالمسألة إذن ترتبط بمستقبل تركيا، فدخولها إلي الاتحاد الأوروبي يحولها إلي دولة علمانية علي النمط الغربي، حتي إن كانت ديمقراطية ومعتدلة، ولكن رفض دخولها إلي الاتحاد الأوروبي، يسمح لها بأن تختار النظام السياسي الذي تريده الجماهير. وموقف تركيا سوف يؤثر في المنطقة العربية والإسلامية، لأن تركيا الأوروبية، سوف تكون إضافة للغرب، بأكثر من كونها إضافة للمنطقة العربية والإسلامية، وتركيا الأسيوية المرفوضة أوروبيا، ستكون إضافة للمنطقة العربية والإسلامية، بأكثر من كونها إضافة لمصلحة الغرب. وتركيا التي تتجه شرقا، سوف تساهم في التحولات الكبري التي سوف تحدث في المنطقة العربية والإسلامية، ولكن تركيا التي تتجه غربا، سوف تساهم في الدور الغربي في التحولات التي سوف تحدث في المنطقة. والسياسة التركية القائمة علي إحداث توازن في العلاقات مع كل الأطراف، يمكن أن يسمح بها لفترة، ولكن من الصعب أن تستمر. فالغرب لا يمكن أن يقبل أن تتعامل تركيا مع أوروبا وأمريكا، مثل تعاملها مع إيران وحركة حماس، لأن المصالح المتعارضة بين الأطراف المختلفة، تمنع أي طرف من أن يحتفظ بعلاقات مصالح مع أطراف بينها تعارض مصالح. لهذا يصبح استمرار المفاوضات حول انضمام تركيا، هو الحل المناسب لكل الأطراف، لأنه حل يفيد تركيا في حسم مشكلاتها الداخلية، وترتيب أوضاعها، وتقليص دور الجيش في السياسة، حتي تصبح الانتخابات هي الحكم الوحيد، كما يعطي تركيا الفرصة لتبحث عن حلول لمشاكلها الداخلية والخارجية، ومنها المشكلة الكردية. كما تعطي المفاوضات فرصة للغرب، حتي يفرض شروطه علي تركيا، دون أن يدفع ثمن انضمامها للاتحاد الأوروبي، حتي يبقي تركيا متعلقة بالغرب لأطول فترة ممكنة، وحتي يعطي لنفسه المساحة اللازمة من الوقت، حتي يعرف كيف يخرج من هذا المأزق. وفي الغالب سوف يبحث الغرب عن وسيلة لضمان تحالف تركيا معه، حتي دون انضمامها للاتحاد الأوروبي. لذا يصبح استمرار التفاوض، هو الحل المؤقت.