لنستعد القصة من جميع زواياها. نستعيدها لنعرف موعد العاصفة القادمة. حفل الانتقام في نجع حمادي ليس جريمة قتل عادية راح ضحيتها 8 قتلي و9 مصابين.. وسلم فيها الجناة أنفسهم. لكنها جريمة رمزية بالمكان (المطرانية) والزمان (ليلة عيد الميلاد). الرمز أخطر. وربما هو الجريمة نفسها. لأن الانتقام هنا علي الهوية. رجل اغتصب صبية. جريمة متكررة لكنها مع هوس السؤال عن الهوية تحولت إلي تصفية حسابات طائفية. هل لو كان المغتصب مسلما كانت ستحدث الجريمة في العيد الكبير وفي جامع المدينة؟ هل كان أهل الضحية سيقتلون شباب المسلمين كلهم انتقاما من الاعتداء الجنسي؟ أم أن هناك جرحًا كبيرًا وشعورًا بالإهانة ينفجر بشكل خاطئ؟!.. والبحث عن الكرامة يتم دائما في الاتجاه الخاطئ: مرات في مواجهة أهل ديانة مختلفة أو أبناء عائلة منافسة أو سكان قرية مجاورة.. ومرة واحدة دفعت المشاعر الغوغائية إلي البحث عن الكرامة المفقودة في الخرطوم بدلا من أن تبدأ في القاهرة. هوية مهووسة، وخلل في التعرف علي الذات: هل نحن فراعنة ضد العرب؟ أم مسلمون نكره المسيحيين؟ أم شيعة نكره السنة؟ ولا كائنات فضائية بتكره نفسها؟ هكذا كتبت نوارة نجم في مدونتها تعليقًا علي الرصاص الطائر من رفح إلي نجع حمادي وضحايا في عمر الورود يرتاح المجتمع فقط عندما يمنحهم لقب «الشهيد» قبل أن يختفي في مقبرة ومعه أحلام بالحياة تبخرت مع رصاصات مجهولة وقتلة مجهولين (حتي لو أعلنت الأسماء والمسئوليات).. ضحايا رمزيون في معركة غير معلنة.. ضحايا غير مقصودين في حادث فوضوي. من نام ليلة المذبحة؟ انتظرت مدينة الألمونيوم انتهاء طقوسها الجنائزية. انتظرتها بمزيد من العواصف المتراكمة تحت غبار الحزن والخوف والألم من الموت في العيد. شهداء جدد إذن وجنازات ودم مسكوب علي ساحة احتفال بميلاد المسيح.. وقتلة هم ضحايا في الوقت نفسه. نامت نجع حمادي من المغرب ليلة عيد الميلاد بأوامر الشرطة. بعدما كانت موقعا لمذبحة في المطرانية.. قيل إنها انتقام عشوائي وقيل أيضا إنها محاولة فاشلة لاغتيال المطران (الأنبا كيرلس) لأنه لم يترك فرصة إلا وطالب فيها بمحاسبة المسلمين الذين حطموا محلات وسيارات مسيحيين في مدينة فرشوط (التابعة دينيا لمطرانيته).. لماذا يترك رجل ديني مكانه الكهنوتي ويتحول إلي زعيم سياسي يبحث عن حقوق رعاياه؟ ولماذا يطلق النار علي ضحايا عشوائيين؟ ببساطة لأن مصر تغيرت. لا أقصد المعني الرومانسي المستهلك الذي يبكي علي الأيام الحلوة والزمن الجميل عندما كان المسيحيون والمسلمون يعيشون مثل السمن علي العسل. المعني الحقيقي أن مصر بعدما عبرت نصف الجسر إلي المدنية.. عادت بقوة، بعدما كانت مصر بلدًا متعددًا يضم ديانات مختلفة (مسيحية وإسلام ويهودية) وأعراقًا مختلفة (عرب وأفارقة وأمازيغ وأكراد وأرمن .. وغيرها) وألوانًا مختلفة (الأبيض والأسمر والأسود والأصفر أيضا). عبرت مصر نصف الجسر وأصبحت مشروع دولة مدنية.. لكنها في نصف الطريق أصيبت في مقتل.. افتُقِد كل شعور عمومي وتحول الدين من عقيدة.. إلي هوية.. ومواطنة. لم يعد المسلم مصريا.. ولا المسيحي مصريًا. كل منهما يبحث عن هوية أخري. تحميه من حرب (نفسية ومادية) موجهة ضد الجميع. حرب تتآكل فيها الدولة.. ويمتص دمها وحوش مهووسة بالمال والسلطة.. وحوش لا تشبع أبدا ولا تكتفي من الثروات المنهوبة بغير حساب. لماذا شعر بعض المسلمين بالفرح في حفل الانتقام ليلة عيدالميلاد؟ هل ارتاحت المشاعر القلقة عندما أُريقت الدماء البريئة؟ هل من حق الأقباط الرعب والرد بمزيد من الرصاصات والقتلي..؟ نحتاج إلي التفكير لا البكاء والحنين إلي الزمن الجميل.. لكن المشكلة أننا محاصرون بسلاح الببغاوات في الفضائيات الذي سارع باستدعاء فرقة غربان كاملة لتغني خلف كورال النظام لحن الوحدة الوطنية.. بينما مصر استوردت نظرية القتل علي الهوية.. أقذر أشكال الحرب الأهلية في لبنان.