المذهب الديكارتي في البحث العلمي هو المذهب الذي يتجرد فيه الباحث من الأفكار المسبقة والعوامل التي قد تؤثر في مجري بحثه، فإن لم يمارس الباحث هذا التجرد؛ ستتأثر بالتالي نتائجه، وتتوه فروضه، ولا يخرج في النهاية بفائدة علمية تذكر، أو بخاتمة مقنعة لبحثه، وكان رينيه ديكارت «مؤسس هذا المذهب» من أشهر علماء وفلاسفة القرن السابع عشر في أوروبا، وكان لكتاباته أبلغ الأثر في الثورة العلمية التي أسست لتقدم أوروبا علي العالم منذ ذلك الحين . هذه المقدمة عن الديكارتية أسوقها لأمهد بها لطرح السؤال الآتي: هل يحب المصريون مصر؟ ولا أطلب في محاولتي للرد عليه إلا التجرد باتباع المذهب الديكارتي. إذا سئلت من قريب لك أو صديق يعمل في الخليج أو هاجر إلي إحدي دول المهجر: أأعود إلي مصر؟ ستكون إجابتك بالقطع: طبعا لأ.. تيجي تعمل إيه؟ دي البلد زي ما انت شايف؛ حالها مايسرّش، خليك هناك يا عم، وقد تزيد: ما تشوفلي سكة أخرج بيها أنا كمان .. وإذا قرأت في عناوين بعض الأخبار أن الممثل الفلاني يتقاضي أجرا في الفيلم الواحد عشرين مليون جنيه، وآخر يطلب خمسة عشر مليوناً؛ تفرك عينيك وأنت غير مصدق! ما الذي يفعله هذا الممثل أو ذاك لكي يستحق هذا الأجر الخيالي؟ أو تقرأ في الصحف أن أجر هذه المغنية أو تلك يتجاوز المائة ألف دولار في الحفل الواحد تغني فيه ساعة واحدة! يا نهار إسود.. أجر المغنية في ليلة واحدة يعادل أجر الأستاذ في جامعة القاهرة في عشرين عاما! وأجر الممثل عن دوره في فيلم واحد يفوق راتب الطبيب الكبير من وزارة الصحة في ستمائة سنة! كيف يحب المصري بلده وهو يري ويعاين ويعاني هذه التفرقة البشعة، إن وضع في الاعتبار الفرق بين ما يقدمه الممثل للمجتمع وما يقدمه الأستاذ الجامعي، أو بين ما يقدمه مغنّ مخنث في ليلة مجون ويعود إلي قصره راكبا سيارة هامر؛ وما يقدمه طبيب في النوبتجية الليلية لعشر ساعات يتقاضي عنها ستة أو عشرة جنيهات، يعود بعدها إلي بيته ماشيا متوكئا علي أمله في الله أن يقتص له من المجتمع الذي ظلمه لحساب المغني المخنث؟ وعلي هذا النموذج؛ لنا أن نقيس حب المصريين لبلادهم علي أساس ما تعطيهم وتعطي غيرهم، وما نعطيها ويعطيها غيرنا.. عقود لاعبي كرة القدم في الأندية الكبيرة بالملايين، والجوعي في مصر أيضا بالملايين.. لصوص الأراضي يستولون علي أراضي مصر؛ آلاف الأفدنة وملايين الأمتار، يشترونها بالملاليم ويبيعونها بالملايين، والمتبطلون والعاطلون في مصر أيضا بالملايين. مستوردو الأسمدة المسرطنة أدخلوها إلي بلادنا وربحوا من ورائها الملايين، والقتلي ومرضي السرطان من جراء استعمالها أيضا في مصر بالملايين. بيعت المصانع والمؤسسات التي بناها المصريون أوائل القرن الماضي بأسمائها التجارية الكبري وأراضيها ومبانيها ومعدّاتها، وجني المشترون والسماسرة أرباحهم بالملايين، وبقي العمال خارج الحسابات تحت خط الفقر في مصر أيضا بالملايين. التلوث أصاب كل مناحي حياتنا، ماء النيل تلوث، والهواء من فوقه لوثته العوادم والهبابة السوداء، وتلوثت الأسماع والأبصار والعقول بما هو أسود من الزفت والقَطِران. فماذا نتوقع أن يكون الرد علي السؤال؟ هل نتوقع أن يحب ملايين الجوعي والقتلي والمرضي والعاطلون مصر؟ أم أن من تسببوا في فقرهم ومرضهم وجوعهم وبطالتهم من اللصوص والسماسرة والمستوردين هم الذين يحبونها؟ كيف سيثبت الإنسان علي الأقل لنفسه وأبنائه حبه لبلده؟ كيف سيربيهم علي حب الوطن وبذل الغالي والرخيص في سبيل رفعته والاستعداد للموت في سبيله، بينما أبناؤه لا يرون ممن يصرّفون أمور الوطن إلا كل نقيصة ؟ نعود هنا إلي الطريقة الديكارتية في التحليل لنتجرد من المؤثرات العاطفية، فالعلاقة بين المرء ووطنه حين تُجرَّد من هذه المؤثرات هي في أصلها علاقة منفعة متبادلة، لا يهم فيها مَن مِن الطرفين يبدأ بالعطاء لكي يرد الطرف الآخر بالعطاء بعده، المهم هو علام يحصل الإنسان من بلده وماذا يفعل في المقابل؟ ولا ينبغي أن يُحسَب للمغنين ومن يماثلهم أن يتغنوا بكلمات مثل: بحبك يا مصر، أو يا أحلي اسم في الوجود، أو مصر هي أمي.... فهذه الكلمات بالطريقة الديكارتية لا تعني في ميزان الحب الحقيقي شيئا، وإنما هي مجرد كلمات أريد بها في زمان غنائها أن تكون ذات تأثير إيجابي في الناس ليحبوا بلادهم، فأحبوها بالكلام فقط، ولكن بالفعل.. أبدا.. فلا أحد يحب مصر من أبنائها؛ لا بضع العشرات الذين يربحون المليارات من وراء سرقتها وبيعها، ولا الملايين المطحونون الذين يخسرون حياتهم وأعمارهم بخسارتها، فالرابحون قد جهزوا أنفسهم لمغادرتها مع أول بادرة أو محاولة للإصلاح أو التغيير، فقد ملأوا خزائنهم وتضاعفت أرصدتهم خارجها، والخاسرون يتمنون الخروج منها ولو ابتلعتهم أمواج البحر، ألست معي في أن لا أحد أصبح يحبها؟