«حاول أن يتذكر أي شيء مميز في حياته أكثر من الجلوس علي المقهي وقراءة الجرائد والفرجة علي التليفزيون ونكتة مع الأصدقاء.. لاشيء أكثر من ذلك.. لاشيء سوي تلك العبيطة التي تفتح فمها الجميل أكثر مما تغلقه.. لهذا السبب يحبها»؟ ليست مجموعة «قميص هاواي» (ميريت) بمتتالية قصصية، مع ذلك فإن البطل الذي يقدمه المؤلف إيهاب عبد الحميد يكاد يكون واحدًا، فرد وحيد إزاء أسئلة كبيرة تولدها التفاصيل الصغيرة حينًا، العجائبية أحيناً آخر، في قصة «العطش»، تنقطع المياه في البلد كله، يجف النيل، تختفي جميع أنواع العصائر، إلي هذا الحد يكبر حجم المفارقة ويغامر الخيال، لكن الحياة تسير نحو اضمحلالها بنفس الأسئلة المتعثرة وازن بين النزول وفقدان بعض المياه في المشي، وبين البقاء في الفراش واختزان ما يحتاجه من مياه»، يتحول الموقف العجيب إلي سؤال أشبه بلعبة لفظية «أخرج وأعيش وأموت، أم أبقي وأموت وأعيش؟»، يضعنا المؤلف أمام إسقاط هائل لكننا نشعر به ولا نشعر به، فالحدوتة تنمو بإيقاعها الخاص، والبطل يعيش نحو الموت بخطوات خافتة، يخرج من البيت ويصطدم بشجرة تظهر في الصباح ثم تختفي، تصغر قدمه في الحذاء، ويجلس علي مقهي بلا «مشاريب»، ويرقب القطط والكلاب دائخة محتضرة في الشوارع، ووسط كل ذلك يبدو الحب ممكنًا وعبيطا وثرثارًا مشكلتي أني عبيطة «تقول البنت»أمي تقول عني عبيطة مع أن الناس يقولون عنها عبيطة هي الأخري، أبي كان يقول لها يا عبيطة دائما حتي دعت عليه ذات مرة أن يصدمه أوتوموبيل، وصدمه أوتوموبيل وأخذت أمي تبكي وتقول يارب لم أكن أقصد. في قصة «مع كانجارو»، تُفتتح الحكاية بنهج كافكاوي «عندما فتحت الباب، كان الكانجارو ممددًا علي الأرض، يطرق الباب بذيله»، لا يهم أن نعرف كيف وصل الكانجارو، مع ذلك فنحن مضطرون للتورط مع الراوي في البحث عن طريقة للتخلص من ضيفه المدهش، ثم التآلف معه، كيف تبدو الحياة في مسكن مع كانجارو، كيف سيبدو الحب تحت ظلال هذا الوجود الغريب، كيف ستتدخل الدولة، البيروقراطية، التجار، يتورط القارئ بانفعال قد يفوق ما لدي الراوي نفسه، فالأخير يجد الوقت دائمًا - والبال- ليحكي لنا عن نفسه، عن المراحل التي يتناوب عليها مع أنواع طعام وموسيقي، وفي «مزرعة البنات» حيث يعمل الراوي في حقل يزرعون فيه الفتيات حرفيًا، يحكي لنا عن حيرته اليومية مع ماكينة القهوة، تدق بابه فتاة زرعها بنفسه، تريد أن تأخذه معها للمدينة «يقولون إنك يجب أن تجرب الشيء حتي تحكم إن كنت تحبه أم لا، ولكني لا أحب المدينة لدرجة أنني غير مستعد لتجريب المدينة». في استيلاد الغرابة، لا يكتفي المؤلف باللجوء إلي الخيال، يستنبط غرابة الواقع أيضًا، في قصة «موتو» يحكي أحمد بجدية وهو يبطط قطعة الحشيش «لا أبالغ، أنا شفت هذا المنظر بعيني التي سيأكلها الدود، المساجين كانوا يمشون علي الحائط»، أما الكاتبة «فتضع الراوي أمام سؤال آخر «لم أصدق أنه يمكن لإنسان تزيد ثروته علي المليار دولار أن يكتب(..) ما كان يشعرني بالاستفزاز أكثر أن ما تكتبه كان جميلا»، غير أن استفزازا آخر يتملك من الراوي إزاء الرغبات الغريبة للكاتبة، رغبات لا تختلف كثيرا - في الحقيقة - عن رغبات أناس ينتمون إلي طبقة اقتصادية أدني كثيرا، غير أنهم - علي عكس الكاتبة - يحققون رغباتهم فعلا فينتجون واقعًا أشد غرابة «قال لي عوض إن أمه الرسمية - في واقع الأمر وحقيقته وأمام الله- هي خالته، وعليه فإن والده أمام الناس ليس إلا زوج خالته، وبالتالي فإن خالته هي أمه، وطبعا خاله هو والده، واستكمالا لشجرة العائلة قال لي عوض إن أخته هي ابنة خالته». علي عكس الإيقاع المتلاحق لاعترافات عوض، فإننا - إجمالا- أمام قصص متمهلة، تبوح بلا اقتضاب، تخلص للحكاية كما للشك الوجودي، فعندما أراد بطل العطش أن يحكي للبنت عن نفسه، تنهد ثم أفضي بالحقيقة «حياتي فارغة».