ما من شك في أن مساحة التناقض بين الإعلام الحكومي والخاص شاسعة جدا.. بل إنها آخذةٌ في الاتساع، ويتجلي هذا التناقض في أوضح صوره فيما تنشره الصحف الحكومية وما تطالعنا به الصحافة الخاصة، فالإعلام الرسمي تقف فيه مصر جنبا إلي جنب مع القوي العظمي، وتتمتع فيه بمعدلات تنمية غير مسبوقة وتتبوأ موقع الريادة الدائم في المحافل الدولية، بينما يرصد الإعلام الخاص تراجع دور مصر في كل المجالات ويُبقي فقط علي ريادتها في انتشار الفساد والرشوة والبطالة وزيادة معدلات الجريمة وحصولها الدائم علي المراكز المتقدمة في غياب الشفافية وانتهاك حقوق الإنسان.. لغة الخطاب الحكومية تشير دائما إلي أنّ «كله تمام"، ولغة الخطاب الخاصة تؤكد أن «كله هباب"، صحف الحكومة تطلق أسماء الدلع علي كل شئ، فالديكتاتورية أزهي عصور الديمقراطية.. والتزوير إجماع شعبي.. والبلطجة تجاوزات واردة.. والقوي المعارضة ليست إلا الفئة المنحرفة والقلة المندسة وكتّابها يُجبرون المواطن علي تكذيب كل ما يقرأه مقدما لأنهم يخاطبون مواطنا آخر في بلد آخر، فالحياة بالعيون الحكومية دائما «لونها بمبي» والدنيا من خلالها ربيع والجو بديع ولابد من التقفيل علي كل المواضيع، بينما يذهب كتاب الصحف الخاصة بالمواطن في الاتجاه المعاكس ويزيدون من قناعته بأنه تم اختزال كل الألوان في اللون الأسود وأن عليه أن يتمتع بالسيئ، لأن الأسوأ قادم فلم يعد يصدق سوي أخبار الفضائح وقضايا الفساد ونهب المال العام ومشاهد التزوير والتربح واستغلال النفوذ وكل ماعدا ذلك في رأيه نفاق من الكاتب ومحاولة للتقرب إلي السلطة والتمسح في بركاتها فلم ،يعد المواطن يثق أن هناك مسئولا شريفا أو قرارا حكيما في بر مصر. لقد هجر القارئ الصحف الحكومية منذ سنوات وأصدر أحكامه النهائية علي العديد من كتابها واحتمي بأقلام كتاب الصحف الخاصة فتعاطف مع كل ما يكتبون ورأي فيهم لسان حاله البائس ونائبه الحقيقي الذي لم يجده تحت قبة البرلمان وانتظر - مخطئا - أن يكون عندهم الحل الأكيد لكل مشاكله واعتقد القارئ أن كل دوره ينتهي عند القراءة لهم والثناء علي عباراتهم، وعندما تأخر الحل المنشود عبّر كثير من القراء عن سخطهم علي الأوضاع الراكدة من خلال تعليقاتهم المتجاوزة وأصبحوا علي مقربة من إعلان ضجرهم الشديد مما نكتبه في مقالاتنا فقد سئموا النقد والشرح والتحليل وباتوا يسألون: وماذا بعد؟! ما الحل؟! فالقارئ يعرف أكثر مما يُكتب ويعيش علي أرض الواقع أضعاف ما ينشر ويرنو إلي الحل علي أيدي مثقفيه وكتابه الذين يجب عليهم أن يدركوا إلي أين يأخذون قارئهم بعيدا عن العبارات المتشحة دائما بالسواد والتي لا تختلف في نتائجها كثيرا عن تلك المزينة بالنصب والنفاق فكلاهما يفقد المواطن الثقة ويغتال لديه الحلم والأمل وتجعله في النهاية ينصرف عن الجميع باحثا عن الخلاص الذاتي والحلول الشخصية لدولته الخاصة المستقلة، فلابد أن ننتبه جيدا لما نقوله وما نكتبه قبل أن نستمر في مزيد من جلد الذات وتعذيب النفس، ولابد أن نسأل أنفسنا ماذا نريد وكيف نصل إلي ما نريده؟ ولابد أن نتذكر أننا لا نحتكر الوطنية وحدنا فلاشك أن بين أركان النظام وأقطاب الحكومة والحزب الوطني من يحب مصر مثلنا ويحتاج منا أن نشد علي يديه لا أن نضعه دائما موضع الاتهام ونرميه باستمرار بسهام الخيانة فلا يجد إلا أحضان الفساد الحانية.. إننا بحاجة لأن ندعم الجهود الإصلاحية والأصوات العاقلة داخل النظام مهما ضعف صوتها ولابد أن نكون قادرين علي إقناع القارئ بأننا لسنا في عداء مع النظام وإنما نحن صوت ضميره الذي لا يحب سماعه وإننا لا نطالب الجميع بالتظاهر أو الاعتصام وإنما نطالبهم بالمشاركة الفاعلة والإصرار علي المطالبة بالحق، فالإصلاح ممكن والتغيير قادم بالحب والتفاعل وليس بالكره والمخاصمة، فالمواطن المطحون بالبحث عن رغيف الخبز وأنبوبة البوتاجاز ومصاريف الدروس الخصوصية والذي يخشي جناب المخبر ويُلقّب أمين الشرطة بالباشا لا يمكنه ولن يستطيع بسهولة أن يجاهر بعداء النظام والحزب الحاكم. إننا نقف عند نقطة حرجة في الخطاب الإعلامي الخاص تستوجب البحث عن اللغة العاقلة المفقودة في مخاطبة القارئ وهي النقطة الفاصلة ما بين الشحن والدعوة للمشاركة وبين اليأس والاستسلام وهي ذاتها النقطة الفاصلة بين الاستهبال والتغييب الذي يمارسه الإعلام الحكومي وبين الانفجار الذي لن تحتمل مصر تبعاته، لأنه لن يبقي ولن يذر، وإذا كان كتاب الحكومة يغتالون القارئ بقتل الانتماء فلا يجب علينا نحن أيضا أن نغتاله بجلده علي الدوام بسياط الانتماء.