لأن مجلس الدولة هو ديوان المظالم فمن الطبيعي أن يلجأ إليه المواطن المصري لرفع الظلم عنه، ولأن الظلم جاوز المدي وصلت الدعاوي التي أقامها المصريون ضد النظام الحاكم بدءا من رئيس الجمهورية وصولا إلي نظيف ووزرائه وجميع المحافظين والمسئولين الحكوميين إلي مليون ومائة قضية خلال العام القضائي الذي بدأ في أول أكتوبر الماضي واستمر حتي 31 يونيو الماضي. فخلال 9 أشهر أصدرت خلالها محاكم مجلس الدولة آلاف الأحكام والفتاوي التي انتصرت للمواطن في أغلبها ضد الحكومة مارس خلالها قضاء مجلس الدولة سياسة يهواها النظام وهي تفريغ الكبت، فتحدث قضاة المجلس بلسان المواطن الضائع حقه وأصدروا أحكاما في صالحه لم تحرك للدولة ساكنا ولم تشغل بال الحكومة التي اعتبرت أن المواطن من حقه أن يحصل علي أحكام قضائية ومن حقها ألا تنفذها، وهذا ما جعلنا نتساءل عن الدور الذي يمارسه مجلس الدولة؟ هل تفريغ كبت المواطنين؟ أم إصدار أحكام قضائية واجبة النفاذ لا يجرؤ أحد علي عدم تنفيذها؟! أصدرت محاكم مجلس الدولة بمختلف درجاتها ما يزيد علي 10 آلاف حكم خلال العام القضائي الذي يوشك علي الانتهاء، نستطيع أن نضع غالبيتهما في خانة أحكام مع إيقاف التنفيذ، كان أبرزها حكم الإدارية العليا بأحقية القبطي المطلق بموجب حكم قضائي في الزواج الكنسي الثاني وهو الحكم الذي قابله البابا شنودة بمقولة "مفيش قوة علي الأرض تجبرني إني أنفذه" وحكم إسقاط الجنسية عن المتزوجين من إسرائيليات وهو الحكم الذي لم ينفذه رئيس الوزراء ووزير الداخلية ولم يبديا حتي نية لتنفيذه إضافة إلي حكم الإدارية العليا الأبرز باستمرار تصدير الغاز الطبيعي لإسرائيل وهو الحكم الذي أصدرته المحكمة برئاسة المستشار محمد الحسيني في 27 فبراير الماضي ورغم أنه حكم صادم للمواطنين ولم يدخل ضمن قائمة الأحكام التي تمتص غضب المواطن فإن المستشار محمد الحسيني رئيس مجلس الدولة أصدره مزودا بديباجة من شأنها أن تكسب ود وتعاطف المواطن وتهون عليه فقال «أمر تصدير الغاز لإسرائيل هو عمل من أعمال السيادة التي ليس للمحكمة ولاية عليها إلا أن المحكمة ألزمت الحكومة بوضع آلية لتحديد كمية وسعر تصدير الغاز المصري للخارج، وعمل مراجعة دورية للتأكد من اكتفاء السوق المحلية من المشتقات البترولية» لتفاجئنا بعد ذلك أزمة في توفير أنابيب الغاز ووصول سعر أنبوبة الغاز إلي 35 جنيهاً ثم قرار الحكومة برفع الدعم عن مواد الطاقة من غاز وبترول وغيرهما. تؤكد الحكومة للقضاء المنحاز للمواطن أنها تعمل بعيدا عن أي أحكام أو قوانين أو ضوابط خاصة أن الأحكام المذكورة مجرد أمثلة لأحكام نهائية واجبة النفاذ لا طعن ولا استئناف عليها وهذا ما أكده السفير إبراهيم يسري -مساعد وزير الخارجية الأسبق- وصاحب دعوي وقف تصدير الغاز لإسرائيل قائلا: لا عزاء لأحكام القضاء ففي الوقت الذي يتحدث فيه القضاء تصاب الحكومة بالصمم، مضيفا أن لدينا حكومة متغولة علي اختصاصات السلطتين التشريعية والقضائية فرغم أن المحكمة في قضية الغاز ألزمت الحكومة بعدم التصدير إلا الفائض من إنتاج الشعب المصري من الغاز وإعادة إبرام الصفقة مع الجانب الاسرائيلي وتعديل أسعار التصدير لتواكب الأسعار العالمية فإن الحكومة تعاملت مع الحكم وكأنه لم يكن أو كأنها ليست الجهة المعنية بالتنفيذ وأصدرت قرارا برفع الدعم عن موارد الطاقة. علي الجانب الآخر اعتبر عادل رافع -المحامي- بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن أحكام مجلس الدولة خاصة أحكام القضاء الإداري دائما ما تصدم الحكومة ولكن المشكلة حسب رافع تكمن في أن قضاة مجلس الدولة ينتهي دورهم عند إصدار الحكم والنطق به في جلسة علنية، أما مسألة التنفيذ من عدمه فليس لهم علاقة بها ورغم أن القانون يعاقب أي مسئول حكومي يمتنع عن تنفيذ حكم قضائي بعقوبة الحبس أو العزل عن منصبه إلا أننا لم نسمع ولن نسمع أن وزير الداخلية تم حبسه أو رفته من منصبه لامتناعه عن تنفيذ آلاف الأحكام التي تصدر ضد قراراته سنويا مثل باقي الوزراء والمسئولين في الدولة ورغم أن المحكمة من خلال الإشكالات يمكنها تغريم الوزراء والمسئولين في حال امتناعهم عن التنفيذ إلا أنه حتي الغرامات التي تقضي بها المحكمة تكون مبالغ لا تذكر ومن ثم تكون غير رادعة للجهات الإدارية. باستعراض أهم الأحكام الصادرة خلال التسعة أشهر الماضية نجد أن محاكم القضاء الإداري بدوائرها الخمسين أصدرت ما يزيد علي 6 آلاف حكم لم تنفذ الحكومة منها سوي أقل من 6% منها ورغم أن أحكام القضاء الإداري واجبة النفاذ ولا يوقف تنفيذها الطعن أو الإشكال عليها فإن وزراء حكومة نظيف أصبحوا يحضرون صحف الطعن علي أحكام القضاء الإداري قبل إصدارها لتؤدي أحكام القضاء الإداري وظيفة وحيدة هي امتصاص غضب المواطنين ولهذا لم نستغرب عندما خرج وزير الإسكان أحمد المغربي ليعلق علي حكم القضاء الإداري الصادر مؤخرا ببطلان عقد «مدينتي» بأن الحكم ليس معناه إنهاء التعاقد وسنطعن عليه أمام المحكمة الإدارية العليا في إشارة لعدم التزامه بحكم القضاء وتأويله حسب هواه ولعل المستشار حسن سيد عبد العزيز -رئيس المحكمة -التي أصدرت الحكم يقرأ الطالع، فحينما أصدر حكمه في القضية زوده بديباجة من شأنها أن ترد علي تصريحات وزير الإسكان من ناحية ومن ناحية أخري تنطق بلسان المواطن تقول: «المحكمة تهيب بالحكومة ضرورة إجراء التصرفات المخولة لها وفقا لأحكام القوانين المعمول بها في هذا الشأن لحماية النظام في الدولة باعتبار أن الدولة القانونية هي التي تخضع أنشطتها أيا كانت سلطاتها لقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطا لأعمالها وتصرفاتها في أشكالها المختلفة، مؤكدة أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازا لأحد والدولة القانونية هي التي توفر لكل مواطن في كنفها الضمانة الأولية لحقوقه وحرياته لنظم السلطة في إطار من المشروعية وأنه علي جهات الدولة المختلفة حماية المصلحة العامة التي لا يجوز أن تختل ضمانا لمعاملات يرجي منها رعاية الحقوق لا إهدارها أو الانتقاص منها». وبعيدا عن الأحكام السياسية التي تهم جميع المواطنين أصدرت محاكم القضاء الإداري أحكاماً تتعلق بالحقوق والحريات الدينية التي تهم فئات معينة من الشعب فأكدت أحقية البهائيين في كتابة «-» أمام خانة الديانة لهم في بطاقة الرقم القومي وهو الحكم الذي التزمت به وزارة الداخلية ونفذته. وعلقت الفصل في دعاوي العائدين للمسيحية بتغيير ديانتهم من الإسلام إلي المسيحية في بطاقات الرقم القومي لحين فصل الدستورية العليا في الأمر رغم أن محكمة القضاء الإداري سبق وأصدرت 4 أحكام في شأن العائدين للمسيحية ما بين أحقيتهم في تغيير خانة ديانتهم من الإسلام إلي المسيحية و عدم أحقيتهم وإجبارهم علي كتابة كلمة مسلم أمام خانة الديانة رغم عودتهم إلي ديانتهم المسيحية و إلزام وزارة الداخلية بكتابة مسيحي بدلا من مسلم للعائدين للمسيحية مع الإشارة إلي من سبق إشهارهم للإسلام ورجوعهم عنه والحكم الرابع يتعلق بتعليق الحكم في قضايا العائدين لحين فصل المحكمة الدستورية العليا في دستورية الفقرة الثانية من المادة «47» من قانون الأحوال الشخصية والتي تلزم مصلحة الأحوال المدنية بتغيير بيانات ديانة أي شخص بناء علي شهادة من الجهة المختصة «الأزهر أو الكنيسة». وأصدرت أيضا خلال العام الحالي ما يزيد علي 4 أحكام في قضية النقاب فقضت محكمة القضاء الإداري بالقاهرة أولا بأحقية الطالبات المنقبات في دخول المدينة الجامعية بالنقاب ثم قضت بعد ذلك بعدم أحقية الطالبات المنقبات في دخول الامتحان بالنقاب وهو الحكم الذي حرصت جميع الجامعات المصرية علي تنفيذه رغم أن دوائر القضاء الإداري بمحافظات بورسعيد ودمياط والمنصورة وكفر الشيخ أصدرت بعد ذلك أحكاماً مختلفة في نفس الموضوع ورغم أن دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا قد أصدرت عدة أحكام أكدت فيها علي أحقية الطالبات المنقبات في حضور الامتحان بالنقاب إلا أن دوائر القضاء الإداري لم تلتزم بهذا الحكم ومازالت تصدر أحكاماً متناقضة في هذا الأمر. وفي هذا الصدد قال المحامي عادل رافع إن موقف مجلس الدولة من قضايا الدين والمعتقد موقف متخبط وغير مفهوم ففي الوقت الذي تؤكد فيه بعض أحكامه أن حرية الاعتقاد مطلقة بما يعني حرية الفرد في اختيار الدين الذي يعتنقه نجده يرفض دعاوي العائدين للمسيحية وفي الوقت الذي تطبق فيه أحكامه مبادئ الشريعة الإسلامية التي تكفل حرية العقيدة نجد أن بعض أحكامه تستند إلي أحاديث ضعيفة مثل «من بدل دينه فاقتلوه» في حين أن القرآن يقول «لا إكراه في الدين» ويقول أيضا «لكم دينكم ولي دين». ولفت رافع إلي أن القانون يعطي للقاضي الإداري مساحة كبيرة لتفسير النصوص وفقا لرؤيته ولمعتقداته الشخصية فإذا كان سلفيا سيصدر أحكاما معينة وإذا كان ليبراليا سيصدر أحكاماً أخري ودلل رافع علي كلامه بالحكم الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري خلال العام الحالي برفض إثبات الديانة المسيحية بدلا من الإسلامية في الأوراق الثبوتية للطفلين أندرو وماريو اللذين أسلم والدهما وتركاهما ولم يعرفا عنهما شيئا وهما مازالا مسيحيين يذهبان إلي الكنيسة بانتظام رغم أن أحكام الشريعة الاسلامية وكذلك الأحكام الصادرة من محكمة النقض التي كان آخرها الحكم الصادر العام الماضي بأحقية أم الطفلين بحضانتهما تنص علي أن «كل مولود يولد علي الفطرة حتي ينطق لسانه إما شاكرا أو كفورا». الغريب أن رئيس مجلس الدولة الجديد المستشار محمد عبد الغني قلل من أهمية تجاهل الحكومة لأحكام مجلس الدولة وقال نحن جهة حكم ومسألة التنفيذ من عدمه ليس لنا بها أي علاقة وعلي الجهات التنفيذية أن تنفذ أحكام القضاء بصفة عامة وعلي المواطنين بدلا من التظاهر وتنظيم الوقفات الاحتجاجية أمام مقر مجلس الدولة أن يذهبوا إلي مقر الوزارات والجهات الحكومية المعنية بالتنفيذ ويحتجوا أمامها لأن دور مجلس الدولة ينتهي بمجرد إصداره للحكم أو الفتوي المعروضة أمامه وشاركه الرأي غالبية مستشاري مجلس الدولة واحتفظ اللواء حبيب العادلي -وزير الداخلية- بتصدره قائمة أكثر الوزراء الذين تصدر ضدهم أحكام قضائية من محاكم مجلس الدولة بمختلف درجاتها وتلاه وزارء المالية والإسكان والسياحة إلي جانب رئيس الوزراء الذي تقدم أكثر من 4ألاف مواطن بالطعن علي قراراته خلال العام القضائي الماضي فقط من جهته حذر المحامي خالد علي -مدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية- من خطورة تجاهل الحكومة لأحكام مجلس الدولة وتعمدها عدم تنفيذ أحكامه قائلا :الامتناع عن تنفيذ أحكام مجلس الدولة يهدد السلام الاجتماعي فالهدف من إنشاء 3 سلطات للدولة قضائية وتنفيذية وتشريعية هو حل النزاعات التي قد تنشأ بين أجهزة الدولة.