فى السادسة من صباح كل يوم كان أهالى مصر الجديدة يستيقظون على صوت «التروماى» الأقدم فى المنطقة والذى يسير عبر مجموعة من الأسلاك الكهربائية على عدد من الخطوط والقضبان الفولاذية التى أكلها الصدأ وشربت عليها عوامل التعرية والإهمال، ببطء شديد، لينقل الأهالى إلى أعمالهم والأطفال إلى مدارسهم والعمال إلى مصانعهم، كوسيلة مواصلات نظيفة وغير ملوثة للبيئة، فقط بخمسين قرشا كانت التذكرة الأقل فى مواصلات مصر لذلك الترام الذى توقف اليوم عند محطته الأخيرة عند كلية البنات بعد أن تحول بفعل فاعل فى الآونة الأخيرة إلى ما يُشبه «الكُهنة» و«الأثر التاريخى» الذى أهملته الدولة من جانب ورحل عنه الركاب من جانب آخر، وهو ما دفع القائمين على الطرق فى مصر إلى التفكير فى طريقة عاجلة للتخلص من ذلك العبء الثقيل على كاهل أرقى الشوارع المصرية «الميرغنى» المؤدى للقصر الجمهورى، لتوسيع الطريق الممتد من نادى هليوبوليس الرياضى إلى منطقة السبع عمارات، مرورًا بكلية البنات. الحكومة تفكك مترو «الميرغنى» لتوسعة الطرق وتتجاهل قيمته التاريخية والحضارية مترو مصر الجديدة.. المحطة الأخيرة ربما لا يدرك الكثير من المواطنين معنى «مترو مصر الجديدة»، لكنه جزء رئيسى من حياة كل من عاش فى هذا الجزء من العاصمة خلال المئة عام الماضية أو يزيد، لن يفهم سوى من عاش فى مدينة أوروبية متحضرة أو بمدينة الإسكندرية، حيث الترام هو عصب الحياة هناك، بجرة قلم صدر القرار الرسمى بإزالة كل خطوط الترام من شوارع القاهرة ونزع الأسلاك الكهربائية التى تمنحها الضوء الأخضر، وكذلك القضبان الفولاذية التى يتحرك عليها منذ ما يزيد على قرن من الزمان، حيث يرجع إنشاؤه إلى أوائل عام 1910 من القرن الماضى كأول خط بين القاهرة وهليوبوليس بواسطة شركة بلجيكية خاصة «شركة سكك حديد مصر الكهربائية وواحات عين شمس»، وكان هذا الخط فى البداية يربط بين محطتى كوبرى الليمون وروكسى بمسافة 7 كم تعمل عليها قطارات بتقاطر كل نصف ساعة وعدد الركاب فى ذلك الوقت كان لا يزيد على 4800 راكب فى العام. ومن ثم ربط المدينة الجديدة التى أنشئت فى الصحراء مع العاصمة الأم القاهرة ونقل سكان المدينة بين أحيائها بوسيلة جديدة فى ذلك الوقت وغير ملوثة للبيئة فى ظل الافتقار إلى وسائل نقل أخرى، ولكن دوام الحال من المحال، فقد تزايدت حالة التكدس السكانى فى مصر الجديدة وارتفع مستوى معيشة الأفراد وأصبح معظمهم يمتلكون سيارة خاصة كما تغيرت هوية وشكل الأدوار الأرضية لمعظم العمارات السكنية، وتحول معظمها إلى محلات وأصبحت الوسيلة الأساسية لنقل العاملين بها هى الميكروباص والتاكسيات. هنا أصبح المترو أبطأ وسيلة نقل فى المنطقة، فضلا عن شكله القبيح وانعدام الخدمات الأساسية به وتوقف أعمال صيانته وعدم وجود جدوى اقتصادية من وراء تشغيله وبدلا من إجراء دراسات هندسية متخصصة أو استطلاع عام لرأى سكان مصر الجديدة كما يحدث فى معظم الدول المتقدمة، لاستمرار وجود المترو من عدمه، تم الإجهاز على كل ذلك بقرار الإزالة الصادر مؤخرًا من قبل محافظة القاهرة وحى مصر الجديدة والذى يصفه الأهالى بأنه يتنافى مع التطور والرؤية المستقبلية لحل المشكلات اليومية التى تواجه سكان هذا الحى العريق. مصر الجديدة.. مدينة نشأت من خط ترام مصر الجديدة، أو واحات هليوبوليس كما كانت تعرف قديما، هى مدينة نشأت فى الأساس من خط ترام، حيث كان رجل الأعمال والمغامر البلجيكى البارون إدوارد إمبان قد قام عام 1905 بمد خط سكة حديد من أقصى أطراف القاهرة المأهولة فى ذلك الوقت، ولمسافة 15 كيلو مترا فى قلب الصحراء. كان خط الترام الذى يسير وحده وسط العدم مدعاة لسخرية كل من رآه، لكن فى النقطة التى وصل إليها الخط انبثقت من الرمال مدينة ساحرة، شكلت نقطة جذب لأطياف عديدة أبهرتها تجربة الحياة فى واحة وسط الصحراء، وسحرتها نزهة الترام الأسطورية وهو يقطع هذه المسافة الكبيرة بمقاييس ذلك الوقت بسرعة هائلة، وسرعان ما امتد العمران حول خط الترام ولم تعد الواحة تقع فى الصحراء، بل فى وسط المدينة التى ابتلعتها. خط الترام التاريخى هذا يتم إزالته الآن بقرار رسمى، ومعه يُزال جزء آخر من تاريخنا وذاكرتنا البصرية، حيث بدأ العمال بالفعل فى إزالة قضبان خط مترو الميرغنى، فى قرار وصفه الأهالى ب«المتعجل وغير المدروس»، بينما يمكن بقليل من التطوير لقطارات المترو أن يستعيد مجده الذى كان، وبتكلفة أقل بكثير من تكلفة الإزالة وإنشاء وسائل مواصلات بديلة. فى الوقت الذى لا يزال فيه كل المدن الأوروبية تحتفظ بخطوط الترام التاريخية، بل وتضيف إليها، نجد المسؤولين فى مصر وقد رفعوها كلها من الشوارع ولم يتبق سوى مترو مصر الجديدة الذى يقتطعون منه جزءًا جديدًا سنة بعد سنة، ومنذ أسابيع قليلة ردموا خطوط المترو فى شارعى الثورة وعبد الحميد بدوى ورصفوا فوقها (على الرغم من أن القضبان الفولاذية هى أقيَم ما فى هذه المنظومة ويكلف مدّها مبالغ هائلة، فهم حتى لم يكلفوا أنفسهم عناء فكّ القضبان والاستفادة بها)، كما فعلوا نفس الأمر بخطوط المترو فى شارع مصطفى النحاس، وفى خط مترو الميرغنى، وقريبا سيرفع تماما من باقى الخطوط ليتحول إلى جراجات للسيارات وساحة «باركينج». «الدستور الأصلي» انتقل إلى هناك ورصدت ردود الأفعال حول ذلك القرار، خصوصا بعد دخول خط المترو الجديد حيز التشغيل مع نهاية السنة الماضية، وبدأ أعمال الإنشاءات فى المكان الأسبوع الجارى عبر إحدى الشركات الخاصة، بهدف تطوير شارع الميرغنى ومحيط قصر الاتحادية على مرحلتين. وكان اللافت أن العدد الأقل من الأهالى أبدوا ترحيبهم الشديد بذلك القرار الذى وصفوه بالمتأخر كثيرًا، وذلك للحفاظ على المظهر الحضارى للمنطقة الحيوية العريقة، من ناحية وللحيلولة دون وقوع الحوادث التى كانت تحدث فى وجوده، من ناحية أخرى، ولكن الأغلبية طالبت بالإبقاء عليه كشريان حيوى وتراث حضارى أسهم فى بناء مصر الجديدة منذ أكثر من مئة عام ويستعمله كثير من المواطنين رغم سوء حالته، بدعوى أنه وسيلة نقل تعمل بالطاقة النظيفة، غير ملوثة للبيئة ولا يقل تراثا عن غيره من الخطوط الموجودة فى عديد من الدول الأوروبية والتى تعد أحد أسباب الجذب السياحى لتلك المدن. ورغم وعود شفهية سابقة للأهالى من قبل محافظ القاهرة ورئيس الحى بأن يتوقف نزع جزء من مترو الميرغنى عند مطعم أبو شقرة بزعم البعض أنها أوامر أمنية لحماية القصر الرئاسى فى الاتحادية وتم بالفعل تجديد شارع الميرغنى والإبقاء على مترو الميرغنى حتى منطقة كلية البنات بمصر الجديدة، لخلق محطة ربط ما بين مترو الأنفاق والفاست ترام (المزمع البدء فيه حتى التجمع)، ومترو مصر الجديدة الذى يطالب البعض بتجديده كاملا ويقترحون سبلا للتمويل لخدمة سكان مصر الجديدة. ولكن المعترضين على قرار الإزالة فوجئوا مطلع الأسبوع الجارى بالبدء فى أعمال نزع الخط الخاص بالترام من كلية البنات وحتى منطقة السبع عمارات (ما يقرب من كيلو ونصف)، بعد انتهاء الشركة المسؤولة عن أعمال الإزالة «بيرفيكت كواليتى للإنشاءات» من المرحلة الأولى من تطوير شارع الميرغنى، بداية من نادى هليوبوليس الرياضى وحتى كلية البنات بمصر الجديدة لتبدأ فى تنفيذ المرحلة الثانية من القرار الصادر من محافظة القاهرة وحى مصر الجديدة فى رمضان الماضى. المهندس خالد حسين، الاستشارى الخاص بالشركة القائمة بأعمال الإنشاءات، أوضح أن قرار الإزالة الصادر جاء من أجل تجميل المظهر الحضارى لمصر الجديدة وتوسعة شارع الميرغنى وخلق رئة ثالثة جديدة للمكان.
نشطاء: تدمير للبنية التحتية بالمنطقة على صعيد متصل قام عدد من شباب وسكان مصر الجديدة بمبادرة للحفاظ على المترو القديم، بداية من التعاون مع جهات كثيرة محبة لمصر الجديدة وللمترو وتم عمل اجتماع موسع السبت الماضى لهذا الغرض، مرورًا بالتقدم بطلب إلى قسم مصر الجديدة للقيام بوقفة حضارية سلمية أول من أمس الثلاثاء، فى مكان خط الميرغنى الذى يتم نزعه الآن فى محيط (كلية البنات)، وطلب منهم المأمور إلغاءها بسبب طبيعة المكان ولدواع أمنية. ومن جانبه أبدى شكرى أسمر، منسق مبادرة «الحفاظ على تراث مصر الجديدة» حزنه الشديد على ما وصفه ب«تدمير البنية التحتية» للمنطقة من قِبل مسؤولى المحافظة والحى، فى حين أن وسيلة النقل النظيف المتمثلة فى الترام هى الأنسب لحل أزمة المرور فى مصر، وفى كل دول العالم المحترمة، مشيرًا إلى أنهم يعملون منذ عامين على تكوين مشروع بالجهود الذاتية، لإيجاد التمويل الكافى لتجديد الخطوط الأربعة الخاصة بمنطقة مصر الجديدة، بدلا من إزالتها نهائيا كما يحدث اليوم على مراحل، ويعملون حاليا على خطوتين أساسيتين، أولاهما: توعية الأهالى بأهمية الإبقاء على المترو وتجديده، وثانيتهما عرض الاستراتيجية المُثلى لحماية المترو القديم، وإرسالها إلى الرئاسة ومجلس الوزراء والإعلام.
الترام قائم منذ أكثر من 100 عام وأسهم فى تعمير المنطقة
سكان مصر الجديدة: إهانة لتراث وثقافة المكان مترو مصرالجديدة لم يكن يشكل عائقا أمام المرور بأى حال من الأحوال، كل ما فى الأمر، حسب شهادات سكان مصر الجديدة، هو الإهمال التام فى أعمال الصيانة والتى لم تحدث منذ أكثر من عشرين عاما وعدم التجديد والتحديث، وكل من يدعى أنه «عائق» لا يدرك حقيقة ثقافة حى مصرالجديدة وأسلوب الانتقال المفضل لسكان الحى عبر ذاك الترام الذى كان يمثل الحل العملى الأمثل لأزمة المرور فى حال تحديثه وصيانته وربطه بشبكة مترو الأنفاق (وهذا كان جزءًا رئيسيا من دراسة الجدوى للخط الثالث لمترو الأنفاق)، إلى جانب كونه جزءًا لا يتجزأ من ثقافة وتراث المكان. الأهالى وصفوا قرار إزالة المترو القديم العشوائية ب«الجريمة» وعدم الفهم لمعنى التنمية المستدامة واستخدام وسائل النقل النظيفة غير الملوثة للبيئة كما هو الحال فى معظم مدن العالم المتحضرة، وناشد الأهالى رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسى سرعة التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأنهم لا يتصورون مصر الجديدة بدون الترام، متسائلين: أين نحن من الفكر والتخطيط المنظم للمدينة بعد التكلفة الباهظة لكوبرى الميرغنى لاستقبال المترو وأيضا هذه المنطقة لا تحتاج إلى توسيع شوارع وليس بها أى اختناقات، فضلا عن أن كل مدن العالم تعيد خطوط الترام القديمة (باريس، جنيف، كزابلانكا، ميلبورن وغيرها) لحل مشكلات المرور والاعتماد على وسائل النقل الجماعى النظيف والمحترم، ولكن فى مصر نحن نعود إلى الوراء. أحمد حجازى، أحد الأهالى، أوضح أن مترو مصر الجديدة كان مواصلة نظيفة محترمة وطوال سنوات عمره كان يستقله فى مراحل تعليمه الأساسية «ابتدائى، إعدادى، ثانوى» ومواعيده كانت مضبوطة بالثانية كما يقولون، منذ أوائل «السبعينيات»، وكان يحيط به زرع عند شارع الأهرام، ولكن مع مرور الأيام أكل الإهمال كل ذلك وبدأ مترو مصر الجديدة يتراجع منذ أواخر التسعينيات، رغم أنه حضارى جدا ورجوعه لسابق عهده مجرد إرادة سياسية، وبالتالى أصبحنا نصمم المدن بحيث لا تكون قابلة للتوسع وكذلك ننقل نمط الحياة القديمة للمدن الجديدة. وأضاف طارق سامى، من سكان المنطقة أن مترو مصر الجديدة تراث يجب الحفاظ عليه وقائم منذ أكثر من 100 عام وأسهم بشكل كبير فى تعمير مصر الجديدة ونزع هذا الجزء الأخير منه يعنى الانتهاء فعليا من تشغيل خط الميرغنى لأن الجزء من نادى هليوبوليس لكلية البنات لن يكون له معنى، وهو ما تجرى إزالته اليوم، رغم أنهم فى كثير من الدول الأوروبية يتركون الترام بعد تجديده ليكون أسرع مع الاحتفاظ بشكله القديم وفى مدينة زيورخ السويسرية يزرعون بين القضبان أشجارًا وقصاصات ووردًا، كأن هناك جنينة بين الطريقين. بينما أكد الدكتور محمد عبد العزيز، أحد الأهالى أن مترو مصر الجديدة أصبح يمثل عائقا ولا بد من رفعه من جميع شوارعها وتوسعة الشوارع بالمساحة المخصصة له، حيث إن معظم الناس يستقل وسائل النقل الأخرى لسرعتها، على أن يتم عمل متحف صغير بمصر الجديدة، توضع فيه عربة من عربات هذا المترو، بالإضافة إلى الصور القديمة لها، وتتم الاستفادة من المترو المرفوع فى تنمية المجتمعات الجديدة التى فى حاجة فعلا إليه مثل مدينة الشروق. ويتفق معه إبراهيم صلاح، سائق فى الرأى قائلا: «كان لازم يتشال النهارده قبل بكرة، لأن الشوارع مليانة سيارات واتخنقت وحصل فيها شلل مرورى ومابقاش فيه رفاهية الجمال عند الناس أو الحفاظ على شكل المكان فى ظل التعداد السكانى الكبير، والمعاناة والأزمات والمشكلات التى نعيش فيها كل يوم».