فى أعقاب ثورة يناير 2011 وأمريكا تعيد حساباتها فى مصر والمنطقة العربية كلها، ولكن نظرا لمستجدات إسقاط الأنظمة الموالية لهم وخروج الإسلاميين على السطح، وفى هذه الأثناء قدمت مراكز البحوث المهمة للإدارة الأمريكية اقتراحا بمحاولة إعادة السيطرة، من خلال تثبيت الأوضاع على لاعب يجب أن يكون إقليميا وليس محليا فقط، يمكن من خلاله بسط نفوذ سهل على المنطقة كلها بإعادة ترتيبها مع شبه طرف واحد، أو على الأقل الحفاظ على الحالة القديمة، ولكن باستخدام لاعبين جدد. الأزمة بين الإدارة الأمريكية والمصرية حاضرة بعد 30 يونيو، وتضخمت بعد تولى السيسى ودخلت أمريكا مع مصر فى تحد مكتوم حول مستقبل الأوضاع فى مصر وإعادة ترتيب أوراقها وعلاقاتها بالمنطقة والعالم، وفى ظل ضغوط داخلية أيضا على الإدارة الأمريكية، اتضحت معالم تلك الأزمة فى بعض التفاصيل الدبلوماسية والاقتصادية كان آخرها مؤتمر إفريقيا الذى استضافته الولاياتالمتحدةالأمريكية. الاتجاه نحو الشرق: اتجهت مصر شرقا صوب روسيا ردا على محاولة الضغوط على السلطة المصرية الجديدة وللإشارة الواضحة بأن هناك إمكانية للتوجه بعيدا عنكم إذا تماديتم فى ضغوطكم، بما يعنيه ذلك من تبعات سياسية إقليمية مهمة تدركها الولاياتالمتحدة، فى ظل الصراع المحموم على إعادة ترتيب المنطقة فى وسط ورطة لم تمر على الإدارة الأمريكية فى تاريخ تعاملها مع الشرق الأوسط تقريبا، باتساع رقعة الصراع إلى كل هذه الدول، وتصاعد القوة العسكرية من اللاعبين من غير الدول، وازدياد نفوذ جماعات متطرفة وروابط اجتماعية وإنسانية تتفسخ.
مؤتمر المانحين: قبل زيارة السيسى الأخيرة للسعودية، كانت هناك بعض تحليلات تتصور بأن الغرض الأهم من الزيارة هو حل مشكلة مؤتمر المانحين الذى دعت إليه السعودية، ولكن لم يتم تداول الأمر، لأن الرواية الرسمية المصرية والسعودية لم تتحدث عن أى شىء فى هذا الخصوص، ولكن كانت إشارات توقف المؤتمر واضحة تقريبا، أو على الأقل حدوث تغيير ما فى ترتيبات المؤتمر، أدى إلى تأجيله وتوقف الحديث عنه، ولهذا فقد كانت زيارة السيسى على درجة من الأهمية فى هذا التوقيت. الحضور الأمريكى: منذ شهرين تقريبا، قال مسؤول دبلوماسى مصرى إن وزير الخارجية الأمريكى سيقوم بزيارة إلى العاصمة المصرية القاهرة، لبحث موقف الإدارة الأمريكية من مؤتمر المانحين، وقال أيضا إن وزير الخارجية الأمريكى آثر أن يقوم بزيارته عقب زيارة العاهل السعودى ليعلن موقف الإدارة الأمريكية من مؤتمر المانحين، ولإعلام المسؤولين المصريين بأن واشنطن سيكون لها ممثل فى مؤتمر المانحين. وفى سياق مشابه صدرت تصريحات فى توقيتات متقاربة من وزراء مصريين تتحدث عن مشاركة الولاياتالمتحدة فى مؤتمر شركاء التنمية «المانحين» الذى دعت إليه السعودية. أيضا وفى سياق مقارب، كان وزير المالية المصرى هانى دميان قد تحدث عن استمرار المشاورات مع صندوق النقد الدولى، لكن مع نفى أن تكون المشاورات بشأن قرض جديد، فضلا عن مشاركته بصحبة هشام رامز محافظ البنك المركزى آخر اجتماعات دورية للصندوق. مناسبة استحضار كل هذا الماضى القريب، هى زيارة وفد صندوق النقد الدولى لمصر، التى بدأت منذ عدة أيام لهدف واضح ومعلن وهو إعداد برنامج للإصلاح الهيكلى للاقتصاد المصرى، وذلك تمهيدا لطرح 145 مشروعا استثماريا فى إطار هذا البرنامج الإصلاحى لجمع 45 مليار دولار، خلال مؤتمر شركاء التنمية «المانحين»، الذى دعا إليه ملك السعودية، وصدرت التصريحات الرسمية تؤكد أن استشارات وفد الصندوق ليست بخصوص التفاوض على قرض وإنما إصلاح الاقتصاد المصرى. الروابط الدولية تتحكم فى مؤتمر المانحين: يتضح مما سبق أن الولاياتالمتحدة المريكية فى أغلب الظن هى من وضعت العصا فى العجلة فى قضية مؤتمر المانحين، واستغلت فى ذلك روابطها الوطيدة بالسعودية، وقد تكون قد طلبت منها فقط تأجيل البدء فى إجراءات الدعوة للمؤتمر حتى ترتيب الأمور مع مصر سياسيا واقتصاديا، وأعتقد أن الإدارة الأمريكية قد أقنعت السعوديين بذلك من منطلق ضمان أداء دور مصر الإقليمى بما يتفق مع مصالح الخليج، التى تتوافق فى معظمها مع ما تفكر الإدارة الأمريكية فى ترتيبه فى المنطقة، وضمان أن لا تتبدد الأموال التى سيتم تجميعها من مؤتمر المانحين فى سد عجز الموازنة مثلا أو فى دعم، وأعتقد أن الصيغة المثلى التى اتفقوا عليها أن يعود صندوق النقد إلى مصر ويشرف بنفسه على إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى كمقدمة مشروطة لعقد المؤتمر، وهى البوابة التى تتمكن من خلالها الولاياتالمتحدة من إعادة صياغة علاقتها بمصر بشروط جديدة تعيدها كلاعب رئيسى وتغلق الباب أمام أى توجه نحو الشرق. الإجراءات الاقتصادية: الشق الاقتصادى فى هذه القضية هو البطل الحقيقى الذى تتبعه آثار سياسية، فالإدارة المصرية وقبل زيارة وفد الصندوق اتخذت عدة إجراءات كان الصندوق يتحدث عنها منذ شهور طويلة، مثل رفع الدعم التدريجى عن المواد البترولية والكهرباء والمياه كمقدمة لباقى الإجراءات التى سيشرف عليها الصندوق بنفسه، مثل إلغاء القيود المفروضة على الصادرات والواردات السلعية، وإلغاء نظام الرقابة على النقد الأجنبى وتطبيق سياسة السوق المفتوحة، وإعادة هيكلة القطاع الإدارى للدولة وإصدار القوانين التى تضمن مصالح القطاع الخاص المحلى والأجنبى، وإجراءات أخرى فى سياق إعادة الهيكلة، وقد نفذ الصندوق إجراءات مشابهة فى عدد من الدول، ولكنه نفذ ذلك فى اليونان فى ظروف مشابهة كوجود مانحين أيضا، ولكن المانحين فى تلك الحالة كانوا الاتحاد الأوروبى. أخيرًا: مصر أمام تحد اقتصادى وسياسى مهم وخطير، يجب أن يدركه القائمون على الأمر فى مصر، لأن وصفات صندوق النقد أنقذت اليونان وأفلست الأرجنتين، وعليه فالعلاج قد يكون واحدا، ولكن الآثار قد تختلف من حالة دولة إلى حالة أخرى، فضلا عن الآثار السياسية المترتبة، لذا وجب التنبيه.