كشفت الأزمة الأخيرة بين الكنيسة والدولة عن انحياز النخبة من أقباط ومسلمين إلي جدران الكاتدرائية بديلاً عن الدولة المدنية رغم أنهم كثيراً ما تشدقوا بحبها وعشقها والتضحية في سبيلها بالنفس والنفيس.. أغلب من تحدثوا أو كتبوا في نهاية الأمر رددوا ما تقوله الكنيسة بالضبط وهو «لا اجتهاد مع نص» وهو ما يردده أيضاً الأصوليون المسلمون.. كان حكم المحكمة بالزواج الثاني هو بمثابة الفتيل المشتعل الذي أعاد للرماد اللهيب، وهكذا استمعنا ليس إلي آراء تفند حكم المحكمة أو حتي تنتقده وكأن الحكم نكأ الجرح القديم فانتقل الحوار إلي الحديث عن اضطهاد الأقباط وضآلة حصولهم علي المناصب الكبري في كل المراكز القيادية في الدولة، حيث يوجد وزيران ومحافظ واحد فقط ولا يوجد رئيس جامعة مسيحي الديانة.. حتي في الغناء والكرة لا يشارك لاعب كرة مسيحي في الفريق القومي ولا مطرب له جماهيرية عريضة في مصر، وهذه الشكاوي في جزء كبير منها صحيح ما عدا الغناء وكرة القدم، لأن اللاعب والمطرب مهارات فردية لا دخل للاضطهاد الديني فيها بالطبع إلا أن القضية تحولت في النهاية إلي إقامة دائرة وسور مرتفع للأقباط أصحاب الحقوق الضائعة بعيداً عن المأزق الأكبر الذي يعيشه الوطن وهو غياب العدالة عن كل ربوع مصر، لأن الاضطهاد تتعدد أشكاله ولا يفرق في النهاية بين مسلم ومسيحي.. وكان ينبغي أن يتعمق الجميع إلي رؤية أكثر اتساعاً لها حدود أبعد من الكنيسة لتصل إلي حدود الوطن ولكنهم أرادوا فقط حقوقاً فردية ولهذا مثلاً نجد أن الكنيسة تلعبها سياسة وتنتظر الرئاسة أن تؤازرها في الحيلولة دون تطبيق القانون لتردها لها في الانتخابات الرئاسية صفقة مباشرة بلا مواربة.. حزب الوفد علي نفس الخط يؤكد رئيسه الجديد «السيد البدوي» أنه مع الكنيسة في رفضها لتنفيذ حكم قضائي، ونجد البابا يشيد بدور الوفد التاريخي في الوحدة الوطنية.. المعركة إذن سياسية تلعبها حكومة ومعارضة.. وكثيراً ما نري تلك اللعبة السياسية بين الكنيسة وعدد من المقربين داخل الدولة وهو مع الأسف موقف عام عاشه عدد كبير من النخبة الوطنية، وفي كل قضايانا أشعر بأن هناك صفقة متبادلة بين كل الأطراف.. أتذكر مثلاً أثناء مناقشة فيلم «شفرة دافنشي» تحت قبة البرلمان.. كانت مصر قبل ثلاث سنوات قد منعت عرض الفيلم بحجة اعتراض الفاتيكان، واعتراض الفاتيكان بالطبع حقيقة معلنة وحق ينبغي أن يمارسه رجل الدين ولكن القانون المدني في النهاية هو الذي يحكم ولهذا عرض الفيلم وقتها في افتتاح مهرجان «كان».. وكان حدثاً عالمياً وكل دول العالم عرضت الفيلم رغم اعتراض الكنيسة.. بينما الحكومة المصرية أرادت أن تزايد في الاتجاه الرافض لعرض الفيلم رغم أن بعض الدول العربية عرضت «شفرة دافنشي» كاملاً: وأتذكر أن النائبة «جورجيت قلليني» تحت قبة البرلمان قالت لفاروق حسني وزير الثقافة: مثلما وقفنا معكم في رفض الرسوم المسيئة للرسول هذه المرة عليكم أن تقفوا معنا وتمنعوا عرض «شفرة دافنشي»، وكأنها تقول له واحدة بواحدة وإن كنت ناسي أفكرك.. ويومها لم يكتف الوزير بمصادرة الفيلم بل صادر أيضاً الكتاب المأخوذ عنه الفيلم، رغم أن الفيلم يخضع تحت مظلته الرقابية بينما الكتاب من حق وزير الإعلام فقط مصادرته إلا أن «غدة» المصادرة انفجرت داخل الوزير.. إنها بالتأكيد لعبة سياسية حتي لو وجدت لها غطاءً ثقافياً.. الوزير نفسه قال: أنا كفاروق حسني أوافق علي عرض الفيلم ولكن كوزير أصادره.. وتغيب عن كل تلك الممارسات الدولة المدنية؟! سيقولون لك: كيف تكوّن دولة مدنية في موقف أو مظهر ما بينما الدولة دينية في كل الأوجه الأخري؟! أي أن الدولة تحكمها قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية فهي إذن ليست دولة مدنية ولهذا يحق لهم رفض قراراتها من منطلق ديني أيضاً.. الذي يقول ذلك هم من دعاة الدولة المدنية بل لا يكفون عن المطالبة بالدولة المدنية إلا أنهم عند أي اختبار يظهرون مباشرة انحيازهم للطائفة وليس لقضية الوطن.. الدولة بالطبع سعيدة بكل ما يجري لأنها في النهاية تمنح جزءاً من استبدادها للكنيسة، والكنيسة تدخل في تفاصيل حياة الأقباط.. البابا أثبت للدولة أنه يستطيع بإشارة منه أن يطلب من الأقباط التحرك وبإشارة أخري يستطيع إيقافهم ولهذا فإن استجابة الدولة له ستؤدي إلي زيادة مساحة وعمق هذا التشابك بين ما هو ديني وما هو سياسي ولهذا فلقد هدد بالمظاهرة الجماعية للأقباط احتجاجاً علي صدور حكم المحكمة وعندما حصل علي وعد بإيقاف تنفيذ حكم المحكمة استطاع إجهاض مظاهرة الأقباط.. القوة الروحية للبابا تتجاوز الحفاظ علي الشريعة المسيحية فهو أيضاً يمارس دوره في الحصول علي الحقوق المدنية للأقباط.. الكل يعرف أن الكنيسة صارت ملجأ للشعب القبطي في كل جنبات الحياة، وكثيراً ما تستمع إلي رأيها وكثيراً أيضاً ما تستجيب الدولة إلي ما تريده الكنيسة.. ويظل التلويح بفكرة الاضطهاد والذي لا أنكر أنه أحد أسباب تأخر المجتمع المصري، فهناك بالفعل حكم مسبق علي الدين يمارسه البعض من الجانبين، هناك انحياز عند البعض للدين علي حساب الكفاءة وتغُيب العدالة وبالتأكيد فإن من يعاني أكثر في هذه الحالة هم الأقلية إلا أنه سلاح في كل الأحوال محرم، ورغم ذلك فإن الكثير من تلك الممارسات التي تبدو ظاهرياً طائفية إلا أنها ليست بالضرورة كذلك ولكن ينبغي ألا ننسي أننا في مصر صرنا نضع الهوية الدينية في المقدمة ولهذا فإن أي صراع طرفاه مسلم ومسيحي سوف يطغي فيه علي السطح مباشرة التفسير الطائفي رغم أنه ليس بالضرورة حالة طائفية.. أتذكر أن مذيعاً توقف برنامجه فكتب يقول: هل لأنني قبطي؟!، ومقدم برامج آخر لم تعد حلقة من برنامجه أكد أنها حرباً طائفية تمارس ضده.. قرأت مرة أن «أسامة منير» وهو حالياً أشهر مذيع راديو علي نجوم F.M وهو شخصية لها حضورها، كان أمله أن يصبح مطرباً وتقدم بالفعل للجنة الاستماع قبل نحو 20 عاماً ولم ينجح فاعتقد وقتها أن اللجنة تعنتت ضده لأنه مسيحي وتحديداً الملحن الراحل «عبد العظيم محمد»، خاصة أن «عبد العظيم» ارتبط بعدد من الأعمال الدينية مثل ألحان فيلم «الشيماء» أخت الرسول وأغنية رمضان الشهيرة «هل البدر بدري»، حيث طلب «عبد العظيم» من «أسامة» أن يذكر اسمه ثلاثياً فقال له «أسامة منير جريس».. اعتقد «أسامة» أن «عبد العظيم» تعمد رسوبه لأنه أثناء الامتحان كان يقول له غني يا «جريس» أعد يا «جريس»، ويومها كتب «أسامة» زجلاً جاء فيه «إن كنت خميس أو جريس من حقي أركب الأوتوبيس».. «أسامة» اقتنع ولا أعرف إذا كانت هذه لا تزال قناعته حتي الآن، بأنه رسب في امتحان الأصوات بسبب اسمه «جريس»، ولم يتذكر مثلاً أن كبار المطربين مثل «عبد الحليم حافظ» رفضتهم لجان الاستماع في بداية حياتهم في امتحانات مماثلة أكثر من مرة.. ولم يسأل نفسه: هل هو حقاً مهيأ لكي يصبح مطرباً أم أن «عبد العظيم محمد» أنقذه عندما رفض اعتماده وكان هذا دافعاً له لكي يضع كل طاقته في العمل كمذيع؟!.. ولو كان «أسامة منير» لديه موهبة الغناء فأنا أتصور أن شهرته التي حققها كمذيع كانت ستصبح شفيعاً له في عالم الطرب ولكنه لم يفعلها وصار الآن أشهر صوت إذاعي في مصر أعاد لنا عصر نجوم الميكروفون القدامي.. مع الأسف أحلنا كل قضايانا إلي دين وعقيدة وصار اللعب بين كل الأطراف علي المكشوف «الدولة والأحزاب والكنيسة» الكل يلعبها سياسة، فما الدافع لكي يؤيد حزب عريق مثل الوفد موقف الكنيسة الرافض لحكم قضائي أو رجل أعمال بحجم «نجيب ساويرس» يعلن تأييده المطلق للبابا في رفضه حكم المحكمة رغم أنه من أكثر المنادين بدولة مدنية؟!.. وهكذا صارت المعادلة عند البعض «أنا قبطي إذن أنا مضطهد في مصر».. رغم أن المعادلة الصحيحة هي «أنا مصري إذن أنا مضطهد في مصر»!! أما الدولة المدنية فاننا صرنا نمارسها فقط وكأننا نجلس علي مقهي ونطلب واحد دولة مدنية وصلحه!!