دقت الساعة الثامنة صباحا فى ذلك المنزل الهادئ ،الخالى وقتها إلا من سيدة تعد لنفسها كوبا من القهوة ينفض عنها آثار النعاس ويجعلها تعترف عمليا ببداية اليوم....بعينين نصف مفتوحتين ضغطت زر ماكينة القهوة قبل أن تلتفت فجأة – وفى حدة تنم عن انزعاج- إلى حيث يقبع هاتفها المحمول فوق منضدة قريبة اعتادت الاستيقاظ مبكرا منذ فترة،لكنها لم تعتد نشاطات – خاصة خارجية- مبكرة وبالتالى فلم تعتد مكالمات فى مثل هذا الوقت المبكر من اليوم.جالت فى ذهنها تلك الخواطر وهى تقطع المسافة القصيرة حتى هاتفها فى بضع خطوات..قبل أن ينعقد حاجباها وهى تنظر إلى شاشة هاتفها التى أعلنت عن (رقم خاص) دون أن تكشف هوية صاحبه منعت أفكارها من الاسترسال بضغطة قوية على زر تلقى الاتصال قبل أن تقول فى توجس "ألو" جاءها صوت شاب على الناحية الأخرى بدا جادا وحازما ومهذبا فى آن واحد وهو يقول "دكتورة أهداف سويف..صباح الخير يافندم" أجابت السيدة فى توجس أكبر"صباح النور!!...مين حضرتك؟؟" رد قائلا"مع حضرتك المقدم أحمد حسين من رياسة الجمهورية" قبل أن ترحب به أسرع قائلا "حضرتك هتستقبلى مكالمة فى خلال دقايق من مكتب السيد رئيس الجمهورية...هل ده مناسب لحضرتك؟" أجابت فى قلق"مناسب...لكن خير يا سيادة المقدم؟؟" بنفس الحزم الهادئ الذى اقتربت رنته فى أذنها من الآلية أجابها "الحقيقة يافندم معنديش معلومات..أنا مكلّف فقط بالتنسيق مع حضرتك" ثم أضاف فى أدب "المكالمة هتتم فى خلال دقائق...آسف على الإزعاج يافندم" أنهت مكالمتها بسلام خافت لا تعتقد أنه سمعه أصلا و إن كانت على يقين أنه غير مهم لآليته الجديرة بموظف محترف جلست تنظر إلى هاتفها دون أن تلتفت إلى كوب القهوة الذى كانت قد أعدته لتوها وكأن الأدرينالين الذى تدفّق على غير استعداد فى دمائها قد أغناها عن أى كافيين خارجى دقيقتان مرّتا فى بطء قبل أن يرن هاتفها مجددا...هذه المرة لم يظهر شىء..فقط الشاشة تضىء دون ظهور شىء محدد على صفحتها ضغطت زر تلقى الاتصال للمرة الثانية قائلة بترقب واضح "ألو" اتسعت عيناها الجميلتان فى اندهاش حين استمعت إلى صوت محدّثها الذى قال بهدوء وود"أهلا...صباح الخير يا دكتورة..يارب منكونش قلقنا حضرتك،بس معلوماتى إن حضرتك بتصحى بدرى زى حالاتى" لم تكن قد استوعبت المفاجأة بالكامل بعد...كانت تنتظر مكالمة من مدير مكتب الرئيس..من مدير المراسم....سكرتير الرئيس...دائما ما يحدث ذلك لمن هم مثلها من آن إلى آخر من أجل دعوة إلى مؤتمر ثقافى أو لقاء موسّع بالمبدعين...لقاءات كانت دائما ما تعتذر عنها لأنها لن تقول كلاما يرضى أصحاب الدعوة غالبا وشيئا فشيئا اختفت الدعوات...وارتاح الداعى والمدعو!! المفاجأة أن المتحدث هذه المرة كان الرئيس شخصيا..بصوته الهادئ وإيقاع نطقه المتأنّى وحروفه التى يضغطها جيدا فى مخارجها قبل النطق بها لم تنتبه من خواطرها التى بدا واضحا لها أنها استغرقت أطول من اللازم حين سمعت الرئيس يقول "ألو!!....دكتورة أهداف!!" ردّت فى سرعة"أهلا..أهلا يافندم..مع حضرتك طبعا...لا قلق ولا حاجة..معلومات سيادتك دقيقة فعلا" "طيب الحمد لله...معلش بقى.بس حضرتك عارفة..اللى يقضّى عمره كله فى الجيش صعب جدا يصحى متأخر،وصعب يتعامل مع الناس باعتبار إنهم بيصحوا متأخر" قالها بنبرة اعتذار حقيقى عن ساعة الاتصال المبكرة "البركة فى البكور يافندم...دى ميزة عظيمة طبعا" "متشكر يا دكتورة....أنا مش هطوّل على حضرتك لأنه وقتنا إحنا الاتنين ضيّق زى ما حضرتك عارفة" أجابت فى أدب"كان الله فى العون يا ريّس" استدرك سريعا"أنا بكلّم حضرتك بخصوص مقالاتك الأخيرة فى جريدة الشروق...الحقيقة أنا متابعها بشكل جيد ومهتم جدا بموضوع الولاد المحبوسين احتياطى واللى حصلت أخطاء غير مقصودة فى القبض عليهم" كادت أن تندفع قائلة أنها ليست أخطاء غير مقصودة وإنما منهج منحرف تنتهجه مؤسسة اعتادت التجاوز إلا أنه أكمل فى لهجة من لم يتعود المقاطعة "حضرتك عارفة إننا فى مرحلة حرجة وحساسة و الأعداء اللى بيتربصوا بينا وعاوزين يضيعوا أمننا واستقرارنا كتير..فطبيعى تحصل أخطاء..لكن إذا كنّا بنعترف بوجودها فواجب علينا نصلحها" شعرت أنه ما زال لديه ما يقوله فاكتفت بكلمة واحدة "طبعا" أكمل الرئيس قائلا "أنا أمرت بتشكيل لجنة من الداخلية والنيابة العامة وجهات قضائية ومنظمات مجتمع مدنى لدراسة أوضاع كل المحبوسين بدون أحكام قضائية بعد 30 يونيو...وهترفع تقريرها للرياسة مباشرة" ثم أردف قائلا "صحيح إنى متأكد إنه الأمثلة اللى حضرتك ذكرتيها أمثلة نادرة ون أغلب المقبوض عليهم متورطين فعلا فى أحداث عنف وعليهم تهم تستوجب العقاب،لكن لازم تكونى واثقة يا دكتورة...إنه إذا كان حد مستعد يقابل ربنا بدعوة مظلوم أو دعوة أم حد من الولاد دول فمش هيكون عبد الفتاح السيسى" بدت نبرته معبرة عن تأثر حقيقى حين أضاف"المصريين منزلوش بدل المرة اتنين وتلاتة وعشرة وضحوا بنفسهم عشان ييجى الوقت اللى مصرى واحد فيه يحس بالظلم...لأ...مش فى عهدى يا دكتورة" شىء ما فى كلامه أشعرها بالصدق فردت قائلة "والله يا ريّس المصريين مش عاوزين حاجة غير حقوقهم بس...محدش طمعان فى زيادة...هى نفس الحاجات...عيش وحرية وعدالة اجتماعية" أجابها فى ثقة"إن شاء الله بمجهودنا كلنا هنحقق كل اللى عاوزينه و بنحلم بيه" "إن شاء الله يا ريس" "الحقيقة يا دكتورة أنا واجب عليا أشكرك على مقالاتك اللى عرّفت الناس بأوضاع ناس زى باسم المتولى ومحمد الجندى وعبد الرحمن الجندى،واللى كمان لفتت نظرنا إنه فيه أخطاء لازم ناخد بالنا منها" ردّت فى ارتياح"لا شكر على واجب يا سيادة الريس..متتصورش حضرتك قرار اللجنة ده ممكن يرفع الظلم عن ناس قد إيه" أجاب فى هدوء"إن شاء الله يا دكتورة....أخبار دكتور مصطفى إيه؟؟" ردّت فى امتنان واضح "بخير يافندم الحمد لله" بدت لهجته جادة بشكل مفاجئ حين قال"لكن اسمحيلى يا دكتورة أطلب من حضرتك طلبين بشكل شخصى..ده إذا سمحتى يعنى" أجابت بسرعة واهتمام"طبعا يافندم...اتفضل حضرتك" "أولا..عاوز حضرتك تتابعى الموضوع ده بشكل شخصى وعن قرب لحد ما ينتهى على خير إن شاء الله"ثم لان صوته فجأة ليقول "وثانيا...عاوز حضرتك توعدينى إنه السياسة متبعدش حضرتك عن الأدب...الواحد مش كتير بيقرأ حاجات بجمال (خارطة الحب)" ابتسمت وقالت"رأى سيادتك ده شرف ليّا يافندم...أوعد حضرتك إن شاء الله وأشكر لسيادتك إهتمامك بكتاباتى المتواضعة" "الظاهر إنه حضرتك اللى متواضعة يا دكتورة" قالها بهدوء مرح قبل أن ينهيا المكالمة بعبارات ودية معتادة تتفرغ بعدها السيدة ذات العيون الجميلة لصنع كوب جديد من القهوة ملاحظات على الهامش:- أولا:هذه المكالمة لم تحدث و غالبا لن تحدث –وإن كنت أتمنى أن أكون مخطئا- ولكنها أمنيات شاب مصرى كتبها على متن طائرة مصر للطيران العائدة به إلى وطن يحلم له بغد أفضل ثانيا:أفضل للرئيس أن يتحدث مع من يعارضونه لا من يهتفون له ويباركون خطواته المقدسة ثالثا:أفضل لنا جميعا أن نقرأ خبرا عن لجنة كتلك فى سياق مكالمة بين رئيس منتخب وكاتبة معارضة ذات سمعة دولية مرموقة رابعا:أفضل للرئيس أن يوضح للجميع أنه ممن يقرأون لا من يقرأ لهم خامسا:كتبت هذا المقال قبل القبض على علاء عبد الفتاح وسناء سيف...فرّج الله كربهم سادسا:أشكر كل من افتقد هذا المكان وسأل عن صاحبه فى فترة انقطاعى عن الكتابة وأعتذر عن ذلك بكونى كنت خارج البلاد فى رحلة دراسية ليست بالقصيرة عاشت مصر وتحيا الثور